د. علي حسين باكير - عربي 21

نشرت وسائل إعلام يونانية الأسبوع المنصرم نص رسالة كانت الحكومة الأمريكية قد أرسلتها إلى أثينا وتتحفّظ فيها على مشروع أنبوب "إيست ميد" لنقل الغاز من إسرائيل عبر قبرص وجزيرة كريت إلى اليونان ومنها إلى البر الأوروبي. وأشارت الرسالة إلى أنّ الولايات المتّحدة لم تعد تدعم المشروع وأنّها متحفّظة عليه. مكمن التحفّظ وفق الرسالة الأمريكية هو غياب الجدوى الاقتصادية للمشروع من جهة، وآثار المشروع البيئية من جهة أخرى، بالإضافة إلى تسبّبه بإثارة التوتر في المنطقة.
 
المشروع المشار إليه كان قد بدأ بمقترح أوروبي عام 2013، ثم ما لبث الاتحاد أن قام بتمويل دراسة حوله استمرت من العام 2015 وحتى العام 2018. وفي العام 2020، قامت كل من إسرائيل وقبرص واليونان بالتوقيع على اتفاقية ثلاثية في أثينا للمضي قدماً في المشروع وذلك بالرغم من اعتراض تركيا. وعلاوة على دعم الاتحاد الأوروبي للمشروع، فقد أعربت إدارة ترامب الأمريكية السابقة عن دعمها للمشروع. 

وبعيداً عن الشكل الاقتصادي الذي يكتسيه المشروع، فإنّ مؤشرات كثيراً حملت دلالات تؤكد على أنّ طبيعة المشروع جيوـسياسية بالدرجة الأولى، وأنّه يأتي ضمن مشروع أوسع ليس لنقل الغاز فقط من إسرئيل إلى أوروبا وإنما لعزل تركيا شرق المتوسط. 

يُعدّ الأنبوب المقترح واحداً من أطول الأنابيب المخصصة لنقل الغاز في العالم. يبلغ طوله حوالي 2000 كلم، وينطلق من الساحل الإسرائيلي مروراً بمياه المتوسط قبالة قبرص، ومن هناك باتجاه جزيرة كريت اليونانية، ومنها إلى البر اليوناني الرئيسي، وصولاً لشبكة أنابيب الغاز الأوروبية عبر إيطاليا. 

طول الأنبوب يترتّب عليه صعوبات أثناء الإنشاء وأثناء الصيانة، كما قد يعرّضه لعمليات تخريب مستقبلاً إذ سيكون من الصعب حمايته. فضلاً عن ذلك، تعتبر تكلفة إنشاء المشروع غير مجدية اقتصادياً، إذ توقّعت تقديرات أوّلية في حينه أنّ الأنبوب سيحتاج إلى إستثمار حوالي 7 مليارات دولار، علماً بأنّ هذه التكلفة قد ترتفع الآن إلى أكثر من 10 مليارات دولار.
 
علاوةً على هذا الرقم المهول، فإنّ حالة عدم الاستقرار شرق البحر المتوسط تجعل من عملية تمويله شبه مستحيلة في هذه الظروف نظراً لعدم رغبة المستثمرين في المخاطرة بهذا القدر من المال في مشروع غير مضمون العوائد ويقع في بيئة غير مستقرة. لكن الأهم من كل هذه المعطيات هو المعارضة الحازمة من تركيا لهذا المشروع. 

ولعل من أكبر نقاط ضعف المشروع هو أنّه من المفترض حال إنشائه أن يمر في منطقة بحرية تابعة لتركيا وفقاً للترسيم البحري الذي تمّ مع ليبيا في نهاية العام 2019، ونظراً لمعارضة أنقرة للمشروع، فإنه من المستحيل لها أن توافق على مدّه في مياه تعتبرها تابعة لها وهو ما يعني أنّ على الأطراف المنفّذة للمشروع أن تستعد للاشتباك العسكري في حال إصرارها على مدّه دون موافقة تركيا، ولا يوجد هناك من هو مستعد لمثل هذا الاحتمال.

آخذين بعين الاعتبار كل ما سبق ذكره، من الواضح أن المشروع لم يستند أبداً إلى أي حسابات اقتصادية بقدر ما كان مجرّد أداة سياسية عمل الإتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة الأمريكية على الدفع به قدماً إلى الامام بهدف عزل تركيا. لذلك، فإنّ الموقف الأمريكي الحالي المتحفّظ على المشروع يعتبر خطوة متقدّمة في الاتجاه الصحيح، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل من الممكن أن يكون التحفظ الأمريكي بمثابة التزام نهائي بترك دعم المشروع؟

في حقيقة الأمر، فإنّ الرسالة الأمريكية ليست بمثابة إقرار نهائي، ولذلك فإنّ موقف واشنطن قابل للتغيّر مستقبلاً، ولهذا السبب بالتحديد خفّف بعض اليونانيين من أهمّية ووطأة الرسالة بالرغم من الصدمة التي تلقوها في البداية. 

لكن وبغض النظر عن هذا الاحتمال، فإنّ الموقف الأمريكي المستجد قد يقرّب إسرائيل من تركيا على اعتبار أنّ تل أبيب تريد في نهاية المطاف أنّ تصدّر غازها، وإذا تمّ تخييرها بين التركيز على هذا الجانب وبين الصدام مع تركيا فستختار تصدير الغاز بالتأكيد. ومع غياب الخيار المتعلق بأنبوب "إيست ميد"، لن يكون أمام إسرائيل سوى خيار تصدير الغاز عبر أنبوب يمتد إلى قبرص ومنه إلى تركيا.
 
ويعتبر هذا الأنبوب الخيار الاقتصادي الأوّل نظراً لقصره من جهة، ولتوافر بنية تحتيّة جاهزة في تركيا لتصدير الغاز إلى أوروبا. ولهذا السبب بالتحديد، فقد تشهد عملية التطبيع الإسرائيلية-التركية تقدماً في المرحلة المقبلة. الخاسر الأكبر في مثل هذا السيناريو هو اليونان وقبرص والدول الأوروبية الداعمة لهما.

اليونان كانت تركّز في الآونة الأخيرة على كل ما من شأنه أن يقوّض من موقع ودور أنقرة شرق المتوسط، ولذلك فأولوياتها لا تتمثّل في تصدير الغاز بقدر ما تتمثّل في محاولة احتواء تركيا. عملية خفض التصعيد التي تمر بها فيها المنطقة الآن لا تتوافق مع الأولويات اليونانيّة. الأمر لا يتعلق بشرق المتوسط فقط، بل حتى في شمال أفريقيا حيث كانت أثينا تراهن على تصادم القاهرة مع انقرة، وكذلك في الخليج حيث كانت اليونان تراهن على موقف الإمارات والسعودية المعادي لأنقرة للدفع بأجندة موحّدة شرق البحر المتوسط.

إلى أي مدى ستدفع هذه التطورات اليونان إلى تغيير موقفها من المشروع سيعتمد بشكل رئيسي على مدى تطوّر العلاقات الإسرائيلية-التركية من جهة، ومدى تمسّك الجانب الأمريكي برفض المشروع من جهة أخرى.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس