الخليج الجديد

أعلنت شركة الطاقة الروسية «غاز بروم» أنها تعتزم المضي قدما في بناء خط أنابيب الغاز الطبيعي «تركيش ستريم» في أسرع وقت ممكن، سواء أمكن للمشروع أن يتغلب على العقبات السياسية في أوروبا أم لا. وفي وقت سابق من مايو/أيار الجاري، أبلغت شركة «غاز بروم» من طرف شركة تابعة لشركة الطاقة الإيطالية «سايبم» أنه يمكنها أن تبدأ زرع أنابيب لـ63 مليار متر مكعب مخطط لها في البحر الأسود، وكذلك استأنف عقد مع «يوروبايبس» الألمانية لـ150 ألف طن متري من الأنابيب للمشروع. وقالت روسيا إنها تخطط لبدء بناء جزء تحت الماء من خط الأنابيب في يونيو/حزيران.

وأخبرت «غاز بروم» بالفعل أوروبا أنها تخطط لوقف استخدام خط التصدير الحالي عبر أوكرانيا في عام 2019، وتحويل إمدادات الغاز الطبيعي إلى خط أنابيب «تركيش ستريم». لكن الأوروبيين يعتقدون أن روسيا لن تتمكن من المضي قدما في خططها إذا كانت أوروبا لا تؤسس لبنية تحتية لازمة لنقل الغاز من تركيا إلى أسواق تتم خدمتها حاليا عن طريق أوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، استثمرت روسيا ما يكفي، ولديها ما يكفي من المواد المتاحة على الأقل للبدء في بناء الخط الأول من أربعة خطوط متوازية يضمها «تركيش ستريم»، سعة كل واحد منها حوالي 16 مليار متر مكعب. وتعول روسيا على رضوخ أوروبا في الوقت الذي تكون فيه «غاز بروم» مستعدة للبدء في بناء خطوط أنابيب أخرى. وحتى إذا لم يكن هناك تسوية وحل من أوروبا على المدى المتوسط، فيمكن لـ«غاز بروم» استخدام نسخة مصغرة من «تركيش ستريم» لتزويد سوق الغاز الطبيعي التركي الصغير الذي ينمو تدريجيا.

تحليل

واحدة من أهم أدوات روسيا لكسب النفوذ في أوروبا هي مكانتها كأكبر منتج مهيمن على الغاز الطبيعي والنفط في القارة. وتستخدم موسكو أيضا شبكات الأنابيب لممارسة ضغط على دول العبور مثل روسيا البيضاء وأوكرانيا وكذلك دول أوروبية أخرى باتجاه المصب.

لفترة طويلة خلال العقد الماضي؛ كان خط التصدير الرئيسي لروسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا هو الخط الرئيسي الذي تشعب كما اتجه غربا باتجاه ألمانيا والنمسا وإيطاليا وكبار المستهلكين الآخرين. وهذا يعني أنه كلما كان بين روسيا وأوكرانيا خلاف يؤدي إلى قطع الغاز الطبيعي عن أوكرانيا، كما حدث في عامي 2006 و2009، فإنه يؤثر بشكل ثابت على إمدادات الطاقة إلى بقية القارة الأوروبية. ولتجنب تكرار هذا السيناريو، تحشد موسكو ما يكفي من الدعم المالي والسياسي لبناء خط أنابيب «نورد ستريم»، الذي ينقل الآن الغاز الطبيعي عبر بحر البلطيق مباشرة إلى المانيا، أكبر عميل لـ«غاز بروم» في أوروبا.

وكان من المفترض أن يكون «ساوث ستريم» هو الطريق الجنوبي الذي من شأنه أن يتجنب المرور عبر أوكرانيا من خلال توفير الغاز الطبيعي عبر البحر الأسود مباشرة إلى بلغاريا ثم إلى وسط وجنوب شرق أوروبا. وجاء الدعم المالي والسياسي لـ«ساوث ستريم» بطيئًا مقارنة بالدعم لنظيره الشمالي، ولكن بحلول نهاية عام 2013، كان لـ«ساوث ستريم» موارد كافية للبدء في منح عقود زرع الأنابيب، وتصنيعها والخدمات الأخرى المتعلقة بالبناء أخرى. ومع ذلك، أوقفت الأزمة في أوكرانيا المشروع قبل أن يتم منح جميع العقود، وتبخر ما كان متوفرا من دعم سياسي محدود في جنوب شرق أوروبا تحت ضغط سياسي قوي من المفوضية الأوروبية والدول الأوروبية الأكثر هيمنة. وفي الوقت نفسه، دخلت روسيا في أزمة مالية كبرى طاحنة، ما جعلها توقف التمويل لمثل هذه المشاريع الكبيرة التي نحن بصددها.

تم إلغاء «ساوث ستريم» في ديسمبر/ كانون الاول من عام 2014، وعلى الفور تقريبا تم استبدال ذلك بخطة «تركيش ستريم»، والتي يتم تصميمها لإرسال نفس الكمية من الغاز الطبيعي إلى تركيا تقريبا مباشرة عبر الحدود مع بلغاريا. وبالنسبة لروسيا، فإن «تركيش ستريم» يحقق نفس الهدف الذي كان سيحققه «ساوث ستريم»، ولكن من دون القيود السياسية بنقل الغاز إلى بلغاريا العضو في الاتحاد الأوروبي. وفي مقابل دعمها للمشروع الجديد، تأمل تركيا في الحصول على نسبة 10.25% كخصم على إمدادات الطاقة من روسيا.

تركيش ستريم

وتستخدم روسيا الآن مقاولين ومقاولين من الباطن تجندهم لــ «ساوث ستريم» لتسريع عملية تطوير «تركيش ستريم». العقود مع «يورو بايب» و«سايبم» ليست سوى مثالين لما تم ترحيله من المشروع الملغي. وتحدد «غاز بروم» أيضا على الأرجح أولويات العمل في الخط الأول من أربعة خطوط أنابيب موازية تم إعدادها، كل واحد منها من المقرر أن يحمل حوالي ربع قدرة «تركيش ستريم» كما هو مخطط له. وتأمل «غاز بروم» أن ينتهي خط الأنابيب الأول في ديسمبر / كانون الأول 2016. 

وتجدر الإشارة إلى أنه لا الحكومة الروسية ولا «غاز بروم» لديهما تمويل لمشروع «تركيش ستريم» بأكمله. وبدلا من ذلك، فقد اختارا اتخاذ نهج تدريجي. ومع انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي، فإن تمويل الأجزاء الأخيرة من «تركيش ستريم» يمكن أن يكون تحديا لــ«غاز بروم» حتى يتعافى الاقتصاد الروسي.

وبالنسبة لـ«غازبروم»، فإن تمويلها المتزامن لكل من «ساوث ستريم» ومشروع طاقة آخر مخطط له (خط أنابيب سيبيريا إلى الصين) قد يتجاوز تكلفة مشتركة بقيمة 100 مليار دولار أمريكي. كان هذا واحدا من الأسباب الرئيسية وراء سعي «غاز بروم» لإيجاد شركاء ماليين دوليين لكلا المشروعين. وقد حصلت روسيا على تمويل كبير من الصين لمشروع سيبيريا، على الرغم من أن «غاز بروم» اشتكت من أن الصين كانت بطيئة في تقديم المال. وكانت روسيا قد قامت أيضا بمقايضة النظام التي تعتزم إنشاءه أولا لبناء خطي أنابيب إلى الصين، مفضلة إعطاء الأولوية لخط أنابيب «ألتاي»، الذي سينقل الغاز الطبيعي من غرب سيبيريا إلى الحدود مع الصين بين كازاخستان ومنغوليا. اختيار بناء هذا الخط القصير أولا يعطي «غاز بروم» المزيد من المرونة في تمويل «تركيش ستريم» نظرا لرأس المال الغربي المحدود.

الحصول على مشاركة أجنبية من أوروبا هو أمر بالغ الصعوبة لمشروع «تركيش ستريم» مقارنة بما كان عليه بالنسبة لــ«ساوث ستريم». حتى لو خفف الغرب العقوبات على روسيا، فإن ثقة قطاع الأعمال في عقود طويلة الأجل مع روسيا لا تزال منخفضة نسبيا، وهذا يعني أن روسيا يجب أن تقدم معدلات عالية نسبيا من العائدات. ومن الناحية السياسية، لا يحظى «تركيش ستريم» بشعبية كبيرة في أوروبا. ويبذل الأوروبيون كل جهد ممكن لتطوير بدائل مثل خطوط الأنابيب عبر الأناضول وعبر البحر الأدرياتيكي وعبر بحر قزوين، والتي يمكن أن تنقل الغاز الطبيعي من تركمانستان إلى أوروبا. وتلقي الشركات في أوروبا بثقلها داعمة وممولة بعضا من هذه المشاريع الأخرى.

وهناك قلق رئيسي داخل موسكو، حيث تخشى روسيا من أنها سوف تقوم ببناء «تركيش ستريم»، لكن ليس لديها وسيلة لنقل الغاز الطبيعي في أوروبا إلى ما وراء الحدود التركية. وفي الوقت الراهن، فإن غالبة البنية التحتية لنقل الغاز الطبيعي في أوروبا تذهب إما من شمال غرب أوروبا (جالبا الغاز الطبيعي من بحر الشمال في وسط وجنوب شرق أوروبا) أو من أوكرانيا غربا أو جنوبا. لم يتم تصميم أيا من البنية التحتية لتنقل الغاز الطبيعي من أقصى الجنوب الشرقي إلى أسواق أخرى. وفي الحقيقة، فإن تركيا وبلغاريا في نهاية شبكات سلسلة إمدادات الغاز الطبيعي في أوراسيا. نقل الغاز الطبيعي إلى الشمال والغرب كانت مشكلة مع «ساوث ستريم» كذلك، ولكن وجدت روسيا في نهاية المطاف شركاء لتمديد خط أنابيب على طول الطريق إلى وسط أوروبا. وبسبب «حزمة الطاقة الثالثة» الصادرة عن الاتحاد الأوروبي يمكن لــ «غاز بروم» بناء وتشغيل خطوط الأنابيب في أوروبا، لذلك يتعين الانتظار حتى يطور الأوربيون البنية التحتية. وتم تصميم خطوط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي وشرق الأناضول لحل هذه المشكلة للغاز الطبيعي من منطقة بحر قزوين، ولكن القدرة الأولية لعبور البحر الأدرياتيكي معفية من قواعد الوصول المفتوح إلى أوروبا، وهذا يعني أنه لا يمكن لــ «غاز بروم» استخدامه في أي وقت قريب.

فروق بين «نورد ستريم» و«تركيش ستريم»

توجد عملية مشابهة لبناء خط أنابيب «نورد ستريم». وبدأت شركة «غاز بروم» منح عقود البناء وبناء خط أنابيب جيد قبل وضع اللمسات الأخيرة من قبل موسكو وبرلين على الاتفاق السياسي للمشروع، وقبل توصل «غاز بروم» إلى التفاصيل النهائية بشأن شبكات التوزيع البرية. ومع ذلك؛ هناك نوعان من الاختلافات الرئيسية بين «نورد ستريم» و«تركيش ستريم».

أولا: ألمانيا أغنى اقتصاد في القارة الأوروبية، وقدمت قاعدتها الصناعية الأموال اللازمة لتمويل وبناء البنية التحتية لــ «نورد ستريم». ولا توجد دولة راعية بالمثل لــ «تركيش ستريم». وأكبر مستهلك في المنطقة بكل وضوح هي تركيا، والتي تحصل حاليا على نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي الروسي عبر أوكرانيا، بما يعادل نفس الكمية الذي يمكن أن تحصل عليها من خط واحد من الأربعة خطوط المزمعة ضمن «تركيش ستريم»، والمقدرة بحوالي 15 مليار متر مكعب. ولا تحتاج تركيا إلى بناء الكثير من البنى التحتية، حيث إن «تركيش ستريم» سوف يعتمد على شبكات الأنابيب الموجودة في شمال اسطنبول لتوصيل الغاز الطبيعي جنوبا عبر الطريق الأوكرانية. ويمكن لإيطاليا أن تستفيد من هذا المشروع، ولكنها ترتبط بالفعل بشبكات أخرى، ولا تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الروسي. وتحد القيود الاقتصادية المفروضة على العديد من الدول في جنوب شرق أوروبا، بما في ذلك تركيا، من الدعم المالي لمشاريع كبرى. أفضل آمال روسيا هو أن أوروبا الغربية قد توفر قروض أو وسائل أخرى لتحفيز إنشاء شبكات لربط خطوط الأنابيب الروسية كما هو مخطط، ولكن القيام بذلك تقويض للسياسة الأوروبية لدعم أوكرانيا، وبالتالي من الناحية السياسية لا تحظى بشعبية في الاتحاد الأوروبي.

ثانيا: تم بناء «نورد ستريم» في إطار بيئة جغرافية سياسية مختلفة تماما. فقد أصبحت ألمانيا أكثر حزما نسبيا خلال المفاوضات مع الكرملين حول مستقبل أوكرانيا. وتم التخطيط لــ «نورد ستريم» ومن ثم البناء بدون هذا التوتر الموجود في الخلفية. وعلاوة على ذلك، فإن بروكسل لديها واجب سياسي أكبر لحماية وحدة أوكرانيا وتفوقها. دورها كدولة عبور هو مفتاح الحل؛ لأنه إذا أوقفت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا، فإن الأوروبيين سوف يتدخلون، ما يجعل العواقب أكثر صعوبة بالنسبة لموسكو. كما بنيت «نورد ستريم» أيضا خلال فترة ارتفاع أسعار الطاقة، وهذا يعني عوائد عالية في حالة الاستثمار في مشاريع الطاقة. وفي الوقت الراهن، تشهد أسعار النفط والغاز الطبيعي انخفاضا، ومن غير المرجح أن تكون هناك عوائد مرتفعة على نحو مماثل.

بناء مشروع خط أنابيب «تركيش ستريم» بأكمله سيكون عملية معقدة وطويلة الأمد، ويمكن للمشروع أن لا يصل إلى كامل إمكاناته وصورته. ورغم ذلك؛ فإنه يكشف نوايا روسيا عن خطة منخفضة المخاطر مختلفة بعض الشيء عن خط الأنابيب. وتعادل قدرة الخط الأول من الخطوط الأربعة المزمعة تقريبا جميع الغاز الطبيعي الذي تسلمه روسيا إلى تركيا عبر أوكرانيا. وعلاوة على ذلك، يتم تعبئة شبكة الأنابيب التي تحمل إمدادات من أوكرانيا إلى تركيا بالفعل بكامل طاقتها. تركيا هي واحدة من أسواق الغاز الطبيعي المهمة لروسيا على المدى الطويل، والطلب على الغاز الطبيعي لديها زاد لأكثر من الضعف خلال السنوات الــ 10 الماضية. وبحلول منتصف العقد المقبل، يمكن للطلب على الغاز الطبيعي في تركيا أن يصل إلى كامل طاقة الخطين الأولين من «تركيش ستريم».

هذا يعني أن المضي قدما في «تركيش ستريم» يخدم أغراضا مزدوجة؛ فإذا كان الأوروبيون يقومون ببناء البنية التحتية اللازمة لروسيا للضغط عليها، فإن موسكو عندئذٍ لن يكون لديها مشكلة في تسريع ما تبقى من المشروع. وإذا كان الأمر كذلك، فإن خط الأنابيب الجديد سيسمح لروسيا بالتوسع في صادراتها إلى سوق الطاقة التركي الذي ينمو بسرعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!