محمود عثمان - الأناضول

مع بدء التحشيد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، بذلت تركيا - ولا تزال- قصارى جهودها السياسية والدبلوماسية من أجل حصار الأزمة، والحيلولة دون نشوب الحرب.

فقد أجرى الرئيس رجب طيب أردوغان زيارة رسمية إلى أوكرانيا أوائل فبراير/ شباط الماضي، التقى خلالها الرئيس فلاديمير زيلينسكي، وقدم اقتراحاً مهماً لمنع حدوث الحرب، بحسب تصريح الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن.

كما أجرى أردوغان محادثات مكثفة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، من أجل إقناعه وثنيه عن غزو أوكرانيا، ولم تتوقف الدبلوماسية التركية يوماً واحداً عن التحرك في الاتجاه نفسه، إذ ما تزال أنقرة تُكثّف اتصالاتها من أجل تطويق الأزمة.

استراتيجيا، نجحت أنقرة إلى حد كبير في تطبيق سياسة التوازنات في علاقاتها الخارجية، مما مهد لها الطريق لبناء علاقات جيدة مع الفرقاء المتخاصمين، ومكنها من مد الجسور مع مختلف القوى، وأهلها للعب دور إقليمي ودولي نشط، فكان من الطبيعي أن تتقدم للوساطة بين الجارتين المتخاصمتين.

لكن وعلى الرغم من وساطتها بين موسكو وكييف، فإن الأزمة الأوكرانية شكلت لأنقرة تحدياً كبيراً، في ظل تداخل وتشابك وتعقيد المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، بين مختلف القوى الدولية والإقليمية على الساحة الأوكرانية من جهة، وعلاقة أنقرة الحساسة بطرفي النزاع، فضلاً عن علاقاتها المتأرجحة مع واشنطن من جهة أخرى.

وانطلاقاً من هذا الأساس، فقد استندت تركيا منذ بداية الأزمة في تحديد موقفها تجاه الأطراف المعنية، على عدة معطيات رئيسية، ميزتها عن غيرها من الدول، وجعلتها عُرضة لتحديات عدة، نظراً لموقعها الجغرافي، ودورها الجيوسياسي في البحر الأسود، وشبكة العلاقات التي تربطها بأطراف الأزمة.

ومن هنا اعتمدت تركيا في توجيه استراتيجيتها السياسية تجاه الأزمة، على مجموعة من الأبعاد والمحددات الرئيسية تتمثل في العوامل التالية:

** عضوية تركيا في الناتو:

تعتبر تركيا واحدة من أهم وأبرز القوى في حلف الناتو، إذ تمارس دوراً محورياً في مهامه العسكرية والأمنية، ليس فقط بسبب استضافتها لأهم القواعد العسكرية التابعة للحلف، وهو الأمر الذي يضفي أهمية وزخماً خاصاً على موقفها تجاه الأزمة، بل لما يمكن أن تلعبه من دور سياسي هام، بسبب قوتها الناعمة في مناطق القوقاز والبلقان.

لذلك ينتظر الناتو من تركيا أن تتبنى موقفه المعارض لأي تدخل أو غزو روسي للأراضي الأوكرانية.

وهذا ما حصل فعلاً، فمنذ بداية الغزو، عقد الرئيس أردوغان، اجتماعاً أمنياً في القصر الرئاسي بأنقرة، خرج ببيان شدد على رفض تركيا للتدخل الروسي، وأنه غير مقبول وينتهك القانون الدولي، مؤكداً أن تركيا ستواصل دعمها لسيادة أوكرانيا واستقلالها ووحدة أراضيها.

**علاقة تركيا مع روسيا:

تطورت العلاقات بين تركيا وروسيا مؤخراً بشكل تصاعدي لافت، فقد ارتبط البلدان بمشاريع تجارية واستثمارية استراتيجية عديدة، تأتي في مقدمتها مشاريع الطاقة التي شكلت حجر الأساس في العلاقات بين الجانبين، فضلاً عن صفقة منظومة "إس 400" الدفاعية الروسية، التي تركت أثراً سلبياً على العلاقات التركية الأمريكية.

إلى جانب ذلك، تعتبر مشاريع خطوط نقل الغاز التي تشترك فيها روسيا وتركيا مُتغيراً حاسماً في تحديد مستقبل علاقات موسكو وأنقرة.

ففي يناير/ كانون الثاني 2020، تم تدشين خط أنابيب "ترك ستريم" الذي يمتد من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود، ويهدف إلى نقل الغاز لتركيا ودول جنوب وجنوب شرق أوروبا عبر الأراضي التركية، مُتجاوزاً أوكرانيا، لتصبح تركيا بموجبه مركزاً لمبيعات الغاز الطبيعي الروسي في أوروبا.

**التعاون الاستراتيجي بين تركيا وأوكرانيا:

تعتبر تركيا واحدة من أهم وأبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، إذ تنامت التجارة الثنائية بين الجانبين بنسبة 50 بالمئة تقريباً خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، حتى وصلت إلى حوالي 5 مليارات دولار، مع وجود أكثر من 700 شركة تركية استثمارية في أوكرانيا.

وشكلت زيارة الرئيس أردوغان الأخيرة إلى أوكرانيا، منعطفاً جديداً في علاقات البلدين، والتقى خلالها بنظيره زيلينكسي، وترأسا اجتماعات المجلس الاستراتيجي العاشر رفيع المستوى بين البلدين، والذي شهد توقيع سلسلة من الوثائق والاتفاقيات الثنائية، تشمل اتفاقية "التجارة الحرة"، التي ستدخل حيز التنفيذ في بداية العام المقبل 2023.

وستسهم هذه الاتفاقية في فتح أسواق جديدة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، ونمو الناتج المحلي في كلا البلدين، فضلاً عن زيادة حجم التجارة الثنائية لأكثر من 10 مليارات دولار، وإلغاء الرسوم الجمركية على حوالي 95بالمئة من إجمالي عدد السلع التي تصدرها أوكرانيا إلي تركيا.

إلى جانب الاقتصاد، شهدت العلاقات في المجال العسكري تطوراً كبيراً، وتعتبر اتفاقية التعاون في قطاع الدفاع، ومجال التقنيات العالية والطيران والصناعات الفضائية، التي وقعها الجانبان أثناء زيارة أردوغان لكييف، أحدث وأوثق خطوات التنسيق العسكري والأمني بينهما.

ويُثير استخدام أوكرانيا للمسيرات التركية غضب روسيا، التي صرحت من قبل بأن وجود تلك الطائرات يُهدد أمنها واستقرار المنطقة؛ نظرا للأداء الفعال والقدرات العالية التي تميزت بها، في أكثر من ميدان قتالي ضد حلفاء روسيا كما في سورية، وليبيا، وأذربيجان.

** أزمة الغاز والطاقة:

تتزايد المخاوف الأوروبية والتركية بشأن مستقبل أمن الطاقة، إذا ما طال أمد الحرب بأوكرانيا.

وتصاعدت وتيرة العقوبات الأمريكية على روسيا، والتي من المُتوقع أن تكون لها تداعيات سلبية على تركيا، خاصة إذا تم تطبيقها على خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، التي توفر لكل من روسيا وتركيا مكانة محورية في أسواق الغاز الأوروبية.

بهذا الإطار، توقع نائب رئيس وزراء روسيا، ألكسندر نوفاك، أن يؤدي فرض الحظر على صادرات النفط الروسية إلى وصول سعر برميل النفط إلى 300 دولار، في وقت أعلنت فيه كل من ألمانيا وهولندا رفضهما لمقترحات حظر صادرات النفط الروسي.

ويحصل الاتحاد الأوروبي على حوالي 40 في المئة من احتياجاته من الغاز الطبيعي، و30 في المئة من احتياجاته من النفط من روسيا، وسط عدم توافر بديل يسهل الحصول عليه، حال تعرض تلك الإمدادات لأي اضطرابات.

** الموقف التركي من ضم القرم:

ترفض تركيا ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ويكرر الرئيس أردوغان تصريحاته بأن "روسيا ضمت شبه جزيرة القرم الأوكرانية بطريقة غير شرعية، وتركيا لم ولن تعترف بذلك".

**الإشراف على المضايق والممرات البحرية:

تبعاً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي المحوري، ووفقاً لاتفاقية مونترو لعام 1936، تمتلك تركيا حق السيطرة على حركة الملاحة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وتلتزم بفرض قيود على مرور السفن الحربية، والتي تختلف حسب ما إذا كانت الدول المالكة لها مطلة على البحر الأسود من عدمه.

ففي الحالة الأولى يسمح للدول المطلة بمرور سفنها في زمن السلم، فيما يفرض على السفن التابعة للدول غير المطلة قيودا تتعلق بالإشراف على حمولتها وتحديد مدة إقامتها.

وبالتالي، فإن إغلاق تركيا لمضيق البوسفور أمام البحرية الروسية، من شأنه تعريض العلاقات التركية – الروسية لهزة كبيرة، تُهدد سلسلة العلاقات الاستراتيجية، والاقتصادية والصفقات الدفاعية المُبرمة بين الجانبين، وهو الأمر الذي تحاول تركيا تجنبه.

الخلاصة:

بناءً على المعطيات والمُحددات والتحديات السابق ذكرها، فقد انتهجت تركيا استراتيجية سياسية متوازنة، تتماهى إلى حد كبير مع سياسات دول حلف الناتو الأوروبية.

وترتكز السياسة التركية على موقف تضامني تجاه أوكرانيا، وإدانة التدخل العسكري الروسي على دولة أخرى ذات سيادة، ومتابعة دور الوساطة بين الطرفين لخفض حدة الصراع، والعمل على وقف الحرب، والحد من آثارها السلبية، مع تفادي تقديم أي تنازلات تضر بمصالحها.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس