ترك برس

أشار مقال تحليلي للكاتب البارز ديفيد هيرست، في موقع Middle East Eye البريطاني، إلى أن الدول الغربية لا يحق لها وعظ تركيا بشأن محادثات السلام التي تجري بين روسيا وأوكرانيا على خلفية الحرب الدائرة بينهما.

وتطرق الكاتب إلى انعقاد لقاء مؤخرًا بين وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، ومراسلة لمحطة CNBC الأمريكية، على هامش منتدى الدوحة وهو تجمع سنوي لأولئك الذين يحرِّكون ويغيرون الشرق الأوسط، ووصفه بأنه "أحد أغرب اللقاءات". حسبما نقل موقع "عربي بوست".

وبحسب هيرست، وجَّهت المراسلة هادلي غامبل انتقاداتٍ لوزير الخارجية بسلسلة من الأسئلة والشكوك حول التزام تركيا تجاه حلف شمال الأطلسي، وشرائها أنظمة الدفاع الصاروخي إس-400، ورفضها توقيع عقوبات اقتصادية على روسيا، واستقبالها للأوليغارشيين المرتبطين بالكرملين، وكيف يُمكن النظر إلى تركيا بجديَّةٍ باعتبارها قوةً إقليمية بينما الليرة ضعيفة للغاية. 

وتابع المقال:

بعد يومين فقط من مناورة غامبل، استضافت تركيا محادثات بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول، والتي شهدت أكبر تراجع للكرملين منذ بداية الهجوم على كييف. وكُشِفَ أن الأوليغارشي الذي له صلاتٌ بالكرملين، رومان أبراموفيتش، كان هدفاً لعملية تسميمٍ، وبرزت تركيا باعتبارها دولةً يمكنها إقامة حوارٍ جدي بين الجانبين. 

قارن ذلك بموقف الولايات المتحدة، أو في الواقع موقف أيِّ قوةٍ أوروبية كبرى. استضافت كلٌّ من برلين وباريس ولندن مؤتمرات لإنهاء النزاعات الممتدة من البلقان إلى أفغانستان، لكن ليس هذه المرة، وليس من أجل صراع يُقال لنا باستمرار إنه على أعتاب أوروبا. كيف هذا؟ 

من جانب الولايات المتحدة، العداء وحده هو ما تبديه، دعا السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مراراً إلى تغيير النظام في روسيا، واضطر البيت الأبيض مؤخراً إلى إدانة دعوته لاغتيال الرئيس فلاديمير بوتين.

لا يمكن لأيِّ أوكراني أن يتَّهم تركيا بالانحياز إلى بوتين، استقبلت تركيا 58 ألف لاجئ أوكراني، أي أكثر من ضعف العدد الذي قبلته المملكة المتحدة الأكثر صراحةً في دعمها لأوكرانيا. 

من الشواطئ الجنوبية للبحر الأسود، تستثمر تركيا بشكل كبير في الحفاظ على الوضع الراهن على الشواطئ الشمالية. يمكن القول إن أنقرة فعلت الكثير بطائراتها المسيَّرة لتزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية اللازمة لمواجهة الهجوم الروسي، كما فعلت المملكة المتحدة بأسلحتها المضادة للدبابات. بيد أن ذلك لم يمنع مستشار الرئيس التركي إبراهيم قالِن من الإشارة في الدوحة إلى أن الهجوم الروسي كان "نتيجة الاستفزاز". 

تشير تنازلات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشأن الحياد الأوكراني، ووضع إقليم "دونباس"، والتحوُّل المُحتَمَل في حدود أوكرانيا، إلى أن بوتين لن يعود خالي الوفاض من مغامرته، مهما حدث بعد ذلك.

إلى أيِّ مدى ستكون أوكرانيا أفضل حالاً إذا التزمت كييف بشروط الاتفاقية الدولية، اتفاقية "مينسك"، التي وقَّعها رئيس أوكراني سابق؟

كل ما كان عليها فعله بعد ذلك هو الاعتراف بدونباس كمنطقة حكم ذاتي، الآن يجب أن تعترف باستقلالها.

أثار هذا الاشتباك قوميين من الطيف الروسي والأوكراني، مع عواقب وخيمة على الأوكرانيين والروس على حدٍّ سواء، لكن لا واشنطن ولا أيِّ عاصمة أوروبية في وضعٍ يمكِّنها من إقناع القومي الروسي في الكرملين بالتراجع، لأن لندن وباريس وبرلين ووارسو متحاربون في الصراع، مثل موسكو وكييف. 

لم يكن هذا ما حدث خلال الحروب التي اندلعت عندما تفككت يوغوسلافيا، عندما كانت لا تزال لديهم القدرة على التوسُّط، تخلَّت العواصم الغربية عن أدوارها كقوات حفظ سلام في الساحة التي تشتد الحاجة إليها.

في المقابل، يُرسَم هذا الصراع بأبسط مصطلحاته، إنها الديمقراطية والسيادة ضد الاستبداد والإمبراطورية، من وجهة نظر السيناتور غراهام، الأخيار مقابل الأشرار.

لكن هذه أوهام إمبراطورية غربية في طور الاضمحلال، وهذا النهج لن يضع حداً لهذا الصراع. 

بالنسبة لهذا السيناريو، عليك أن تعود 30 عاماً إلى الوراء، عندما كانت مثل هذه الصراعات تندلع في جميع أنحاء الأراضي السوفييتية السابقة. انظر اليوم إلى ساحات القتال في التسعينيات: ناغورني قره باغ، جورجيا، ترانسنيستريا، كلُّها "صراعات مُجمَّدة" لأن المطالبات المتنافسة على الأرض واللغة والهوية لم تُحَل بعد. 

الاستثناء الوحيد هو الشيشان، وكلُّنا نعرف ما حدث هناك. بحلول عام 2003، سحق بوتين المقاومة الشيشانية بإزهاق عشرات الآلاف من الأرواح، وفعل بغروزني ما فعله بماريوبول، تلقى ترحيباً ملكياً في لندن، وكوفِئ من قِبَلِ رئيس الوزراء آنذاك توني بلير بتوقيع عقد بين شركتي "بريتيش بتروليوم" و"تي إن كي"، وهي نفس الصفقة التي تخلَّت عنها شركة بريتش بتروليوم بعد غزو روسيا لأوكرانيا. 

إذا اتَّبَع هجوم بوتين نمط الصراعات السابقة في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، في مرحلة ما، سيتوقف القتال حول الحدود التي لن تكون مثل تلك التي تدفَّقَت عبرها دباباته، في 24 فبراير/شباط. 

ستكون أوكرانيا قد ضمنت دخولها إلى الاتحاد الأوروبي بتكلفة باهظة، ستكون قضية الديمقراطية في روسيا نفسها قد تعرَّضَت لانتكاسةٍ كبيرة. 

إن أضمن طريقة لتعسير الأمور بالنسبة لروسيا، المجمَّدة خارج النظام المصرفي الغربي، هي أن ترفع وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، لأن ذلك سيعني أن أكبر الكيانات التجارية الإيرانية غير الخاضعة للعقوبات، لا يمكنها التجارة مع الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات.

حتى لو رفع بايدن تصنيف "الإرهاب الأجنبي" عن الحرس الثوري، وهناك دلائل على أن هذا قد يكون على وشك الحدوث مقابل العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، فإن وزارة الخزانة الأمريكية لن ترفع عقوباتها عن المنظمة أبداً.

تلخِّص هذه القضية في حدِّ ذاتها الأزمة التي تدهورت إليها السياسة الخارجية الغربية. لم يعد بإمكانها فرض الامتثال، ومع ذلك فهي لا تزال تستخدم لغة القوة: الحرب والعقوبات. إنها تتوق إلى القيادة، ولم يعد بإمكانها القيام بذلك.

من أجل ضرب خصم بالعقوبات يجب أن ترفع العقوبات عن خصم آخر. إنها تصيح وتصرخ حول القصف الروسي للأبراج في خاركيف وكييف، لكنها تحافظ على صمتٍ مُطبِق عندما تفعل الطائرات الإسرائيلية الشيء نفسه مع الأبراج في غزة.

في نقاط أخرى قليلة من التاريخ الحديث، كانت الفجوة بين الواقع والبلاغة كبيرة، ربما عام 1914 أو 1939، لكن هذه ليست سوابق سعيدة.

لنأخذ أطروحة غامبل القائلة إنه لا يمكنك عرض سياسة خارجية قوية إذا كان هناك اضطرابٌ في الداخل، هذه المرة فقط دعونا لا نتقدَّم بمشروعنا في تركيا، لكننا نحوِّلها إلى أنفسنا في الداخل. 

في الولايات المتحدة، تدير قناة Fox News حملةً جادة، مفادها أن الولايات المتحدة على وشك أن تشهد نفاد الطعام، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية متحدة، إنها مستَقطَبةٌ بشكلٍ خطير يتجاوز الحدود المعتادة للخطاب السياسي. 

في أوروبا، ينهض اليمين الشعبوي كقوةٍ كبيرة. في إيطاليا، يمكن أن يسجل حزب "فراتيلي دي إيطاليا" اليميني الراديكالي المشكك في أوروبا، نجاحاً ملحوظاً في الانتخابات المقبلة، وفي فرنسا من المُتوقَّع أن يظل الرئيس إيمانويل ماكرون في السلطة، لكن الحملة الرئاسية كانت سباقاً نحو قاع سياسات اليمين المتطرف، حيث يتقاتل المرشحون على من يمكن أن يبدو أكثر معاداةً للمسلمين. وفي المملكة المتحدة، رئيس الوزراء بوريس جونسون، كاذب بشكلٍ مُثبَت، ويتمسَّك بمنصبه فقط لأن هناك حرباً في أوكرانيا. 

هل هذا كله صدفة؟ في كل بلد، اليسار محطم وغير راغب أو غير قادر على الدفاع عن حقوق العمال والأجور العادلة والحماية الاجتماعية، وفي كل منها يتحرَّك اليمين الشعبوي وهو قادر على إقامة روابط دولية ذات مصداقية. 

في اللحظة ذاتها التي يصور فيها الغرب نفسه على أنه الحامل الوحيد للديمقراطية والليبرالية، أصبحت اللاليبرالية في الداخل تتلاشى. وكل هذا قبل أن تشعر أوروبا الغربية بردِّ الفعل الناجم عن العقوبات "المُعوِّقة" التي فرضتها على روسيا.

إذا قرَّر بوتين غداً قطع الغاز الذي يواصل تزويده عبر أوكرانيا إلى أوروبا، بحجة أنه لا يُدفَع له بالروبل كما يطلب، فستكون هناك أزمة.

قالت الولايات المتحدة إنها ستسعى جاهدة لإضافة 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي هذا العام، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال إعادة توجيه شحنات الغاز الطبيعي المسال من دول أخرى. وقالت الولايات المتحدة ببساطة إنها ستعمل مع "شركاء دوليين"، دون تحديد مصدر الغاز الطبيعي المسال الإضافي، لكن حتى هذا هو عُشر الـ155 مليار متر مكعب من الغاز الذي تصدِّره روسيا إلى الاتحاد الأوروبي سنوياً. 

هل يميل بوتين -الذي يُوصَف بأنه شيطانٌ وهتلر ثان- إلى جعل الحياة في أوروبا أسهل، من خلال انتظارها حتى تفطم نفسها عن الاعتماد على الصادرات الروسية؟ 

إن تعرض أوروبا والولايات المتحدة للتضخُّم والركود لا يعد شيئاً عند مقارنته بمصر، أو في الواقع تركيا، لذا فإن الشعور بالخوف الذي شعر به منتدى الدوحة بشأن الحرب في أوكرانيا، وما يمكن أن يكون على وشك دفعنا إليه جميعاً، هو حقيقة. 

ما هو واضح بالفعل هو أن الولايات المتحدة وأوروبا قد تخلَّتا عن حق التفاوض على إنهاء الصراع في أوكرانيا. في مثل هذه الظروف ربما يكون من الأفضل عدم السخرية من محاولات الوساطة التركية، لأنها الآن اللعبة الوحيدة المتبقية. 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!