
ترك برس
تناول الكاتب والمحلل السياسي التركي عبد الله مراد أوغلو، تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين في ظل الحرب التجارية التي أشعلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مسلطًا الضوء على الرفض الصيني للرضوخ لسياسة التهديد والإهانة.
ويشرح التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق كيف أن موقف الصين الرافض ينبع من وعي تاريخي عميق مرتبط بما يُعرف بـ"قرن الإذلال الوطني" بين عامي 1839 و1949، حين فُرضت عليها اتفاقيات مجحفة من قوى استعمارية.
ويفسر الكاتب كيف تشكّل هذه الذاكرة الجماعية جوهر القومية الصينية الحديثة وتؤثر بشكل مباشر على سلوك بكين في مواجهة الضغوط الغربية، خاصةً تلك القادمة من واشنطن. وفيما يلي نص التقرير:
تستمر لعبة "شد الحبل" بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الصين شي جين بينغ. التوترات تتصاعد، والأعصاب مشدودة، لكن لا يبدو أن جين بينغ ينوي الإفلات من طرف الحبل. ترامب، مصحوبًا بتصريحات مهينة، زعم أن عشرات الدول تتوافد إلى أبواب البيت الأبيض لعقد اتفاقيات تجارية. وبما أنه لا يضع قيودًا أمام نفسه، يتصرف ترامب بحدة، وينتظر أن يصطف نظرائه لتقبيل خاتمه في عرشه داخل البيت الأبيض. إلا أن هذه الصرامة لا تعطي النتائج المرجوة عندما يكون الطرف المقابل هو الصين.
إن الحروب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم تُزعزع النظام الاقتصادي العالمي المتأزم أساسًا من جذوره. ومع ذلك، لم تكن الصين هي من بدأ هذه الحرب. فالصين لا تسعى إلى تدمير النظام القائم، بل تهدف إلى ترقية موقعها ضمن هذا النظام. أما الولايات المتحدة، فإنها لا تريد بأي شكل من الأشكال أن تفقد موقعها المزعوم كقوة مهيمنة على النظام العالمي.
نظراً لأن حرب ترامب الجمركية بدأت تُحدث تأثيرات سلبية داخلية، فإنه بات يعتمد أحيانًا موقفًا دفاعيًا. بل صرّح بأنه تحدث مع الرئيس الصيني وأنهما على وشك التوصل إلى اتفاق. لكن التصريحات الصادرة عن بكين نفت بشكل قاطع وجود أي لقاء أو مفاوضات.
أما وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، الذي يُتوقع أن يكون له دور مؤثر في المفاوضات التجارية مع الصين، فقد قال في مقابلة مع قناة "ABC" ضمن برنامج "This Week": "لا أعلم إن كان ترامب قد تحدث مع الرئيس شي أم لا". وأوضح بيسنت أنه التقى نظيره الصيني في واشنطن خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لكنه شدد على أن اللقاء لم يتناول موضوع التعريفات الجمركية. وبخصوص رفض الصين لأي محادثات، عقّب قائلاً: "أعتقد أنهم يوجهون رسائلهم إلى جمهور مختلف".
في الواقع، تحمل كلمات بيسنت هذه دلالة بالغة الأهمية تشير إلى حقيقة يجب الانتباه إليها بشأن الصين: وهي أن القيادة الصينية لن ترضخ بسهولة للرئيس ترامب الذي يلعب دور "الرجل القوي". فالصينيون يطلقون على الفترة الممتدة من عام 1839 إلى 1949 اسم "قرن الإذلال الوطني"، وهذا المفهوم متجذر بعمق في الذاكرة الجماعية للصين. وإذا كنا سنتحدث عن قومية صينية اليوم، فلا بد أن نبحث عن جذورها في "قرن الإذلال الوطني".
كانت الصين في القرن الثامن عشر من أكبر الاقتصاديات في العالم، لكنها تحولت في القرن التاسع عشر إلى شبه مستعمرة نتيجة "حروب الأفيون" التي خاضتها مع بريطانيا (وفرنسا). في حين فرضت بريطانيا قيودًا على استخدام الأفيون في أراضيها، خاضت حربين ضد الحكومة الصينية التي منعت التجار البريطانيين من إدخال الأفيون إلى الصين. ففي "حرب الأفيون الأولى" التي بدأت عام 1839، أرسلت بريطانيا سفنها الحربية إلى نهر يانغتسي، وأجبرت الصين على فتح موانئها وأسواقها لتجارة الأفيون. أما في "حرب الأفيون الثانية" التي بدأت عام 1856، فقد تغلبت بريطانيا وفرنسا، بفضل تفوقهما العسكري الأوروبي، على القوات الصينية، وانتهت هذه الحرب بنهب القصر الصيفي القديم في بكين على يد القوات البريطانية والفرنسية.
فرضت بريطانيا وفرنسا على الصين، من خلال ما يُعرف بـ"دبلوماسية الزوارق الحربية"، هيمنة عسكرية قسرية. واضطُرت الصين إلى توقيع اتفاقيات غير متكافئة منحت الأوروبيين امتيازات جمركية وتجارية وتعويضات مالية وأراضٍ. أما هونغ كونغ، التي تم التنازل عنها لبريطانيا كميناء وفق إحدى تلك المعاهدات، فقد أُعيدت إلى الصين في عام 1997. وبعد "الحرب الصينية-اليابانية الأولى" عام 1895، خسرت الصين بعض مناطقها في الشمال لصالح روسيا القيصرية، بينما سقطت تايوان بيد اليابان، التي احتلت الصين بين عامي 1931 و1945.
بالنسبة للصينيين، لا يُعد "قرن الإذلال" مجرد درس قاسٍ من الماضي، بل يشكّل تحذيرًا للمستقبل أيضًا. فالمبدأ القومي الصيني المستند إلى هذا القرن يُعلمهم أن الضعف سيقود إلى الإذلال مجددًا. وشعار "لن نسمح بذلك مرة أخرى" يعني أن الصين لن تسمح لنفسها بالسقوط في الوضع ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يأخذ شي جين بينغ، فور توليه الرئاسة عام 2012، اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي لزيارة معرض عن "قرن الإذلال".
فهم "قرن الإذلال الوطني" يُعد أمرًا ضروريًا لفهم السياسة الخارجية الصينية ورؤيتها للعالم. أما الحروب التجارية والعقوبات التي أطلقها ترامب ضد الصين، فإنها تُعيد إلى الذاكرة الصينية أسوأ لحظات ذلك القرن المظلم. وعلى الرغم من أن بكين لا تبدو راغبة في تصعيد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة إلى مستوى مدمر، فإن محاولات ترامب إحضار شي جين بينغ إلى طاولة المفاوضات من خلال التهديدات والإهانات والتقليل من الشأن لا يبدو أنها ستنجح.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!