سليمان صالح - الجزيرة

العالم ينظر الآن إلى تركيا وينتظر نتيجة أخطر انتخابات، والمحللون السياسيون يستعرضون قدراتهم في البحث عن معلومات تؤكد وجهات نظرهم، وشركات استطلاع الرأي تنشر كل يوم نتائج مختلفة يمكن أن يحصل عليها كل مرشح وحزب.

دراسة مضمون ما تنشره وسائل الإعلام الغربية يؤكد التحيز ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، لذلك نطرح هنا سؤالا: ماذا لو تحقق أمل الغرب باختفاء أردوغان من المشهد العالمي؟!

فتح زجاجات الشمبانيا

يقول الكاتب البريطاني ديفيد هيرست في مقال في "ميدل إيست آي": إن الغرب سيحتفل بسقوط أردوغان في الانتخابات بفتح زجاجات الشمبانيا من برلين إلى واشنطن، لكن هل سيكون اختفاء أردوغان من المشهد العالمي في صالح تركيا أو منطقة الشرق الأوسط؟!

الإجابة عن ذلك السؤال تحتاج إلى رؤية حكماء يستشرفون المستقبل، لكن أما زال في الغرب العنصري المتمحور على ذاته ومصالحه من يملك تلك القدرة؟

في مقاله ذلك، اختار هيرست وصفا دقيقا، فالشمبانيا -دونا عن أنواع الخمور الأخرى- من أهم مظاهر الترف في الغرب، لا يشربها إلا الأغنياء الذين كدسوا الثروات، وأصوات فتح زجاجاتها تعبر عن عالم غرق في الترف في مواجهة عالم آخر يعاني الفقر والقهر.. وهذا الغرب الثري يرفض أن تعبر تركيا -رغم عضويتها في حلف الناتو- عن سياسة مستقلة، أو تقوم بصياغة علاقاتها الدولية لتحقيق مصالحها التي تتعارض مع المخططات الأميركية للسيطرة على العالم.

أصوات زجاجات الشمبانيا التي ستفتح احتفالا بسقوط أردوغان تكشف عنصرية الغرب، ورفضه استقلال الدول، وتآمره لمنع الشعوب من فرض إرادتها، وكسر التبعية، وقد رأينا خلال العقد الماضي كيف دعموا تدمير التجارب الديمقراطية لشعوب عربية تطلعت لتحقيق الحرية والاستقلال الشامل.

اكتشاف الحقائق وإدارة الصراع

من الثمار الإيجابية للانتخابات التركية أن يكتشف الكثير من شعوب العالم الحقائق حول طبيعة الصراع، والعقلية الاستعمارية التي يحاول الغرب إخفاءها، وكيف يستخدم الإعلام لتضليل الشعوب، والمعايير المزدوجة التي يتعامل بها مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.

امتلك ديفيد هيرست الشجاعة ليكشف بوضوح أن مشكلة الغرب مع تركيا: أن أردوغان يصرّ على الاستقلال في علاقاته الدولية عن الغرب، وأن تكون لتركيا مكانتها العالمية والإقليمية، بينما يريدون حاكما لتركيا يكون أكثر طاعة لهم.

لذلك أكد بايدن خلال حملته الرئاسية أن أردوغان عليه أن يدفع الثمن، وعلى أميركا أن تريه بوضوح أنها تدعم المعارضة في تركيا، وإذا صحّ ما نشرته بعض وسائل الإعلام فقد تكون السفارة الأميركية في أنقرة عقدت اجتماعات لتوحيد قوى المعارضة ضد أردوغان، وهذا يساهم في تفسير كثير من الأحداث، أهمها كيف اتفقت المعارضة المنقسمة على اختيار كليجدار أوغلو.

التنازل عن استقلال تركيا

يطرح ديفيد هيرست سؤالا: هل يتنازل كليجدار أوغلو عن استقلال تركيا؟ مشيرا إلى أن كليجدار أوغلو يبدي رغبة جامحة لإرضاء واشنطن والاتحاد الأوروبي والناتو، فقد حرص على زيارة أميركا وبريطانيا قبل إعلان ترشحه، وقدّم وعودا تغازل الغرب مثل الوقوف بجانب أوكرانيا ضد روسيا، وهو ما عارضه قادة في حزبه، ومن شأن هذا التوجه أن يفقد تركيا المميزات التي حققتها بتبني سياسة مستقلة متوازنة تمكّنها من لعب دور الوسيط والحفاظ على مصالحها.

قبل أشهر، تمكّن أردوغان من حماية العالم من مجاعة عندما نجح في تأمين تدفق صادرات الحبوب من أوكرانيا إلى العالم، وهذا يوضح أهمية الموقف التركي المتوازن المستقل عن الغرب. وكما نجح في صادرات الحبوب، يمكن لهذا الموقف المستقل أن يسهل التوصل إلى حل لهذه الحرب عبر رعاية المفاوضات، إذا أدركت أميركا يوما أنها لن تستطيع تحقيق انتصار حاسم على روسيا، وأن الحرب ستستنزف قوة روسيا وأميركا، وتدمر أوروبا.

هل يحقق كليجدار أوغلو وعوده؟

من أهم وعود كليجدار أوغلو لإغراء الشعب التركي بانتخابه: انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وأن المواطن التركي سيتمكن من السفر إلى أوروبا دون الحاجة إلى تأشيرة. لكن هيرست يشكك في قدرته على تحقيق هذا الوعد، فتركيا كانت مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي منذ عقدين، ولن يحقق كليجدار أوغلو تقدما أسرع مما حاول أردوغان أن يحققه!

يضيف هيرست ملحوظة مهمة هي أن هذا الانضمام لن يتحقق دون التضحية بمصالح تركيا الحيوية.

وما يقوله صحيح، فاستقلال تركيا وإضعاف قوتها الصلبة التي نجح أردوغان في بنائها على مدى عقدين يمكن أن يكونا الثمن الذي يدفعه كليجدار أوغلو للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والمفارقة أن نذر الخطر تحيط بهذا الاتحاد وتهدد بتفككه وانفجار صراعات جديدة بين دوله.

أوروبا الآن أيضا أصبحت مثقلة بأزماتها، وتتزايد فرص اليمين المتطرف في الوصول إلى حكمها، وهذا اليمين يتعامل بعداء مع المسلمين، ويهدد المهاجرين، وقد يكون الأتراك -خاصة في ألمانيا- أول من ستصوب العنصرية الأوروبية سهامها نحوهم، فما الفوائد التي يمكن أن تحصل عليها تركيا من الانضمام للاتحاد الأوروبي، إن نجح كليجدار أوغلو في تحقيق وعده الصعب؟

ماذا لو اختفى أردوغان؟

توصل هيرست إلى نتيجة مهمة: أن اختفاء أردوغان سيكون كارثة ليس لتركيا وحدها، بل للمنطقة كلها. لكن هل يمكن أن يستمع الغرب إلى صوت هيرست الذي يمتلك خبرة في تحليل مشكلات المنطقة التي تتصاعد حدتها وتنذر بانفجارات متتالية؟

فيما يتصل بتركيا، فإن أبرز نتائج اختفاء أردوغان سيكون توقف صناعاتها الدفاعية، والقضاء على طموحها في أن تصبح قوة إقليمية. وصناعة الأسلحة من أهم جوانب قوة تركيا الصلبة، وهي من أهم الصادرات التي تحصل منها تركيا على العملة الصلبة، وبدوره سيؤدي هذا إلى الضعف الاقتصادي، وزيادة التضخم والبطالة.

وبالنسبة للمنطقة، فإن أهم وعود كليجدار أوغلو لشعبه أنه سيقوم بترحيل 3.7 ملايين لاجئ سوري وإعادتهم إلى سوريا، والمرجح أن يخلق هذا مأساة إنسانية جديدة، وقد تسربت بالفعل رسائل يمطر فيها النظام السوري بالوعود إن فاز، محاولا بذلك عرقلة التسويات التي يقوم بها أردوغان. وتسليم السوريين إلى نظام كهذا قد يضع هؤلاء العائدين في مواجهة خطر حقيقي، وفي وضع كهذا يسهل توقع موجات هجرة جديدة إلى أوروبا، تتعامل معها السلطات بقسوة قد لا تقتصر على المهاجرين الجدد وحدهم، بل تشمل كل المهاجرين، السوريين وغير السوريين، وهذا يعني أن اختفاء أردوغان من المشهد العالمي قد يعني بداية مأساة إنسانية جديدة.

ومن الواضح أن الغرب يضغط على أردوغان اقتصاديا وإعلاميا، وهناك الكثير من المؤشرات على أن الأنظمة الغربية تعرقل جهوده للسيطرة على التضخم، وتعمل على زيادة حدة الأزمة الاقتصادية في تركيا.

مع ذلك، يتميز السلوك السياسي لأردوغان بالثقة، فهو يمضي في تحقيق أهدافه في زيادة القوة الصلبة لتركيا، وتطوير اقتصادها، ومواجهة التحديات، وبناء مكانتها الإقليمية والعالمية.

والشعب التركي يمكن أن يشاهد حال الشعوب التي فرض عليها الغرب نظما تابعة له، والمخاطر التي تهدد تلك الشعوب، فيما رئيسهم يقدم نفسه لهم كل يوم بإنجازات حقيقية جديدة.

وأخيرا، وإن لم يكن لهم حق التصويت، فإن فوز أردوغان يشكل أملا لشعوب تتطلع للحرية، كما أن من مصلحة العالم المحافظة على تركيا قوية ومستقلة، وتحمي المضطهدين، لأسباب شرحناها آنفا، فهل يمتلك الغرب قدرا من الحكمة ليتخلى عن استكباره وعنصريته، ويوفر تكاليف زجاجات الشمبانيا ليساعد بها الفقراء في أحياء باريس قبل أن يدفعهم الفقر لإحراقها.

عن الكاتب

سليمان صالح

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس