ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

ها هي نتيجة انتخابات الجولة الأولى قد ظهرت وماذا في ذلك؟!

إنها شاهدة تاريخية تقول بملء الفم: لا يمكنك أن تفهم تركيا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تضج بالمتصيدين الذين ليس لديهم شخصية حقيقية مثل قطيع من يأجوج ومأجوج، أو من خلال الاستبيانات والاستطلاعات الموجهة بأمانيهم وما تمليه عليهم الأوامر الواردة بعيدا عن أرض الواقع من خارج الميدان. وبالتالي لا علاقة بين الحقيقية وضوضائهم الصاخبة التي تصدر عن الأواني الفارغة. إن تركيا التي تتحدث عنها كل وسائل الإعلام في استطلاعاتهم لا وجود لها إلا في مخيلاتهم. تركيا الواقعية هي التي تعبر عنها صناديق الاقتراع التي تخبر بمصداقية عن استطلاعات الرأي الحقيقية.

ومع اقتراب الساعة من الثامنة والنصف مساء يوم الانتخابات الـ14 من مايو/أيار الحالي وعندما جلست لكتابة هذا المقال كانت نسبة الصناديق المفتوحة 86.41 بالمئة من صناديق الاقتراع التي كانت تشير إلى تقدُّم أردوغان بنسبة 50.29 بالمئة في الانتخابات الرئاسية. ولكن نظرًا لأن معظم صناديق الاقتراع التي لم تكن قد فُتِحَت بعد ستأتي من المناطق التي يتقدم فيها كليجدار أوغلو فقد كان من المتوقع أن تنخفض ​​هذه النسبة أكثر قليلاً. لكن الصورة أصبحت أكثر أو أقل وضوحًا بغض النظر عن مقدار ذلك الانخفاض. وكان أكثر شيء وضوحا هو أنه حتى اللحظة الأخيرة لم تكن هناك فرصة للتكهنات بما إذا كانت الانتخابات ستنتهي في الجولة الأولى أم لا؟

وحتى مع اتجاه الانتخابات للجولة الثانية جولة الإعادة فإنه لا شك تعني أن الفائز هو أردوغان تماما كما فاز في كل انتخابات دخلها مع حزب العدالة والتنمية خلال 21 عاما. وكذلك الحال مع المرشح المنافس الذي يكرر تجربة الخسارة في كل الانتخابات التي خاضها ضد أردوغان حتى الآن، والذي اتضح أنه هو الخاسر في تلك الانتخابات أيضا بنسبة تزيد قليلا عن 43 في المئة من إجمالي الأصوات. وحتى لو ذهبت الانتخابات إلى الإعادة فإنها لا تغير حقيقة أن المعارضة أبعد ما تكون عن توقع النصر الذي زعمته في بداية فرز الأصوات، وذلك وفقا لجميع التصورات التي تم التوصل إليها حتى الآن.

فالحقيقة أن نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت في نفس الوقت مع الانتخابات الرئاسية قد بينت حصول التحالف الرئاسي تحالف الشعب على أغلبية في مقاعد البرلمان. وهذا واقع يدحض المزاعم التي كنا نسمعها منذ شهور وهي أنه “حتى لو فاز أردوغان بانتخابات الرئاسة فإنه سيفقد غالبية مقاعد البرلمان. ولكن الآن ومع ذهاب الانتخابات الرئاسية لجولة ثانية فإن تحالف الشعب يتمتع بأغلبية في البرلمان. الأمر الذي سيمنحه ميزة واضحة في جولة الإعادة”.

إن المشهد الآن هو الأكثر واقعية إذ ليس فيه أي مفاجآت لكل من يعرف تركيا الحقيقية ويدري واقعها الميداني، بينما المفاجأة كبيرة لكل من يتابع الأحداث خلف الشاشات على بعض وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. وفي ذلك الصدد يصاب المرء بالدهشة من أولئك الذين يثقون في شركات الاستطلاعات التي اكتسبت مصداقية على مر السنين بما صرفته من جهود حثيثة وأداء تحليلي فكري رفيع المستوى ثم تضع مؤخرًا هذه المصداقية في خدمة حزب الشعب الجمهوري واستخدامه مادة دعائية. فتلك الشركات لا تتردد في إبلاغ عملائها الغربيين أن كليجدار أوغلو سينهي المهمة في الجولة الأولى بفارق لا يقل عن 7-8 نقاط. ربما بناءً على التقارير التي قدمتها هذه الشركات تخلَّت وسائل الإعلام الغربية مثل إيكونوميست، لوبوينت، لوبريس، ديرشبيغل عن جميع مبادئها وممارساتها الصحفية وقبلت القيام بدور كتيبات الدعاية لحزب الشعب الجمهوري.

لدرجة أنهم تجاهلوا أن هذه عملية انتخابية في إطار الديمقراطية يخوضها أردوغان الذي صوَّره حزب الشعب الجمهوري على أنه “ديكتاتور” وجميع تحالفاته في هذه العملية. أردوغان الذي وصل إلى السلطة طوال 21 عاما عن طريق الانتخابات ولم يمكث في السلطة ليوم واحد بطريقة غير انتخابية. وبالطبع إذا كان هناك ديكتاتور طوال هذه المدة فمن المحتمل ألا نشهد مثل هذه النتائج أو الانتخابات في الوقت الذي نكتب فيه هذا المقال.

ومن جانب آخر، فإن أردوغان كما هو الحال في جميع الانتخابات قد عمل بجد أكثر من أي شخص آخر في هذه الانتخابات. وقام بأنشطة وفعاليات فوق العادة فانتقل بين أنحاء تركيا ليقدم نفسه للناس ويعرض عليهم رؤيته ويتعرف على مشاكلهم ويدعوهم للتصويت. لكن خصومه قد قاموا بجميع أنواع المؤامرات والتهديدات والابتزاز من أجل التحالف والاتفاق فيما بينهم على مرشح. إن عملية إقناع الجماهير والاستراتيجيات المستخدمة لتوحيد الجميع على مرشح واحد هي مثال حيّ يتم تقديمه لأولئك الذين يصفون أردوغان بالقمع والديكتاتورية لعلهم يفقهون.

وفي ظل الظروف العادية فإنك حينما تكون بالفعل في السلطة ثم تُجري انتخابات وتصير مرشحا فيها لا يعد ذلك ميزة على الإطلاق بل إنه قد يعد سلوكا خاطئا. ولكن على الرغم من الوباء الذي تعرضت له تركيا في السنوات الخمس الماضية ورغم المشاكل الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأوكرانية الروسية ثم الزلزال، وحتى إذا لم يكن هناك شيء آخر إلى جانب ذلك فهناك الإحباط المعتاد للبعض، رغم كل هذا تمكن أردوغان مرة أخرى من الحصول على 50 في المئة من الأصوات. في الانتخابات السابقة حطّم رقمه القياسي الخاص الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ تركيا والذي سيكون من الصعب جدا تكراره فيما بعد. ومن المعلوم أنه ليس بالأمر السهل على أحد أن يفوز بالعديد من الانتخابات الواحدة تلو الأخرى. ولما استطاع أردوغان أن يحقق ذلك فهذه علامة على الرابطة القوية للغاية التي أقامها مع شعبه والتي تكررت آثارها هذه الأيام.

وفي هذا المقال لا يمكن ألا نذكر ما للإقبال والمشاركة المذهلة في الانتخابات من دلالة حقيقية على مدى الفهم العملي للديمقراطية واستيعابها في تركيا.

فهذه المشاركة مؤشر واضح على الإيمان العميق للشعب بالسياسة في تركيا. ولا يمكن لأحد أن يشكك في جودة الديمقراطية ومصداقيتها حينما يؤمن الشعب بقدرته على استخدام السياسة من أجل تغيير شيء ما. لكن قبول الناس لسياسة ما ومدى جودة هذه السياسة أمر آخر. كما أنه عندما لا تظهر النتيجة التي يريدها فريق ما فإن إلقاء التهم والافتراء على الفائز ووصفه بالديكتاتور الاستبدادي بدلا من احترامه لا يعني ذلك السلوك شيئا سوى الشغب.

وخلاصة القول التي يمكننا إنهاء المقال به حتى الآن: لقد كان يوما حافلا من أيام تركيا فازت فيه الديمقراطية وفاز فيه أردوغان مرة أخرى رغم بقاء الأمر لجولة ثانية…

بالتوفيق وحظا سعيدا.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس