محمود الرنتيسي - العربي الجديد

لعل أصعب المواجهات التي قد يتعرّض لها السياسي مخاطبة فئات متنوعة من الناس لديها مواقف متباينة، أو في حالة صراع مع بعضها في الوقت نفسه، من أجل تأمين الدعم منها في استحقاق انتخابي أو موقف استثنائي. في هذه الحالات، يميل القادة العقلانيون إلى مخاطبة الجهة الأكبر والأكثر تماسكاً والملتفّة حول القضايا الوطنية، وتلبية مطالبها، وتضمين تطلّعاتها في خطاباتهم، ويتّجه سياسيون آخرون إلى سياسة متعرّجة وخطابات التفافية على القضايا الحسّاسة، حتى يستطيعوا أن يجمعوا، وفق تقديرهم، الدعم من كل هذه الفئات جميعاً. ولكن يتضح، في حالاتٍ كثيرة، أنهم يعودون بخسارة كبيرة، حيث إن السواد الأعظم، من الفئات التي يخاطبونها، لا يقتنع بخطابهم الموارب، خصوصاً عندما لا يكون العامل المشترك بين كل هذه الفئات واضحاً أو بارزاً.

في الحالة التركية، طبّق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، النموذج الأول بتحالفه مع القوميين المحافظين، ومع الأحزاب المحافظة الصغيرة في تحالفٍ متجانس نسبياً، فيما اتّجه مرشّح المعارضة كمال كلجدار أوغلو إلى الاجتماع على طاولة واحدة مع خمسة أحزاب أخرى متنوعة الأفكار والأيديولوجيات، وتعاون مع حزب سادس، هو حزب الشعوب الديمقراطية الذي يختلف تماماً مع أكبر الأحزاب الخمسة، وهو الحزب الجيد، ما أثّر في نتائج الانتخابات سلباً على المعارضة، وعلى الناخب العادي الذي لا ينتمي لأي حزب، ولكنه يراعي الحساسية والشعور القومي، وكذلك الاستقرار وعدم الرغبة في رؤية نظام مكوّن من شركاء متشاكسين.

على كل حال، عندما رأى كمال كلجدار أوغلو الواقع الذي أفرزته نتائج الانتخابات في 14 مايو/ أيار الحالي، سواء نتائج الانتخابات البرلمانية أو نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، وقد كان يقول إن دوراً كبيراً كان للناخب القومي في تحديد نتائج الجولة الأولى، كما أن كتلة المرشّح الثالث للرئاسة كانت من هذا التيار الذي لم يُعره كلجدار أوغلو اهتماماً في الحملة الانتخابية، وفي السلوك السياسي عموماً، بل ذهب إلى الطرف النقيض. وعليه، بدأ كلجدار أوغلو في محاولة جذب الناخب القومي، وظهر هذا في خطابه، سواء في موضوع اللاجئين، أو تجاه الجهات الانفصالية في تركيا.

هذا التحرّك المتعرج لكلجدار أوغلو من الاعتماد على الأحزاب المحافظة الصغيرة لاستقطاب كتلة حزب العدالة والتنمية الانتخابية، ثم التحالف غير المعلن مع حزب الشعوب الديمقراطية ذي الأغلبية الكردية، ثم حالياً بروز النفس القومي، وبنسخة متطرّفة منه، خصوصاً بموضوع اللاجئين، يدل على تخبّط وارتباك سبّبته نتائج الجولة الأولى لدى المعارضة التركية.

في السياق نفسه، نجد أن أردوغان استمرّ في المسار نفسه، من دون تعرّج. ولهذا وجد سنان أوغان، الذي يطمح من بين أهدافه أن يبرز اسماً صاعداً في قيادة التيار القومي في تركيا، والذي يبدو أنه سيستمر في البقاء حجر زاوية في السياسة التركية، نفسه يربح أكثر بالتموضع، حيث فضّل التيار القومي الأعم الوجود. وتجدُر الإشارة إلى أن التيار القومي في تركيا ليس كتلة واحدة، وهناك جهات عدة تمثله، وتمثل أنواعاً مختلفة من القومية.

من زاوية ثانية، يعتمد هذا التحرّك على حسابات خاطئة تماماً، إذ إنّ تفاهم كلجدار أوغلو مع رئيس حزب الظفر أوميت أوزداغ، والذي يشمل بنوداً لا يقبلها حزب الشعوب الديمقراطية، يخاطر بانفضاض كتلة حزب الشعوب الديمقراطية التي صوتت لكلجدار أوغلو في الجولة الأولى عنه، حيث يعتقد أن 10% من 44% التي حصل عليها كلجدار أوغلو جاءت من أصوات أنصار حزب الشعوب الديمقراطية، فيما يمثل حزب الظفر 1%. كما يخاطر بانفضاض الأصوات الليبرالية التي دعمت كلجدار أوغلو، والتي ترى مشكلة في السلوك المتطرّف تجاه اللاجئين، والذي يتبناه أوميت أوزداغ، ووضعه شرطاً في اتفاقه مع كلجدار أوغلو. وكذلك الحال، وجدنا أن كلجدار أوغلو قام بحسابات خاطئة في الجولة الأولى، حيث أعطى أربعة أحزاب صغيرة متحالفة معه قرابة 35 نائباً في البرلمان من قائمة حزب الشعب الجمهوري، بينما تفيد التقديرات بأن مجموع تأييد الأحزاب الأربعة يتراوح بين 1-2%. ولهذا بنى الرئيس أردوغان جزءاً من دعايته قبل الجولة الثانية على التشهير بالسلوك المتعرج لكلجدار أوغلو وحساباته الخاطئة، وقال له "منذ متى أصبحت قومياً؟"، ووجهت انتقادات لكلجدار أوغلو مفادها بأن التظاهر بالقومية لن ينطلي على الكتلة القومية. وبالرغم من أن حزب الشعوب الديمقراطية أصدر موقفاً يؤكّد استمرارية معارضة أردوغان، وأكد أنه لا يدعم استمرارَه، فإنه لم يؤكّد دعم انتخاب كلجدار أوغلو بالاسم (ربما لأسباب تتعلق بعدم استفزاز القوميين ضده أكثر)، كما انتقد اتفاق كلجدار أوغلو مع أوميت أوزداغ، سواء في ملفّ اللاجئين، أو مسألة تعيين رؤساء مكلفين في ملفّ البلديات، في مدن الجنوب الشرقي، ذات الأغلبية الكردية.

يمكن القول، بناء على قراءة سلوك المعارضة في الانتخابات أخيراً، وقبل الجولة الثانية، وتحديداً زعيم حزب الشعب الجمهوري، إن أداء المعارضة التركية المتخبّط والمرتبك والمعتمد على حساباتٍ غير دقيقة، كان له العامل الأبرز في عدم نجاح المعارضة في تحقيق أي إنجاز يمكّنها من الوصول إلى الحكم.

عن الكاتب

محمود الرنتيسي

باحث فلسطيني في مجال العلاقات الدولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس