محمود علوش - الجزيرة نت

من المتوقع أن يُجري الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، زيارة إلى تركيا هذا الشهر، في مؤشر على أن الشراكة بين البلدين ستستمر، حتى في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس رجب طيب أردوغان لإصلاح العلاقات مع الغرب. وتعكس العلاقات المتشابكة والمعقدة لتركيا مع روسيا والغرب حالة "تركيا المتأرجحة في السياسات الدولية". ومنذ انضمام أنقرة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في خمسينيات القرن الماضي، ظلت الميول الغربية تُعد سمة أساسية من هويتها الجيوسياسية. وهذه الميول استمرت خلال العقد الأول من حكم أردوغان، حيث عمق العلاقات مع الغرب من خلال الإصلاحات الواسعة التي قادها داخلياً وتعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة وبدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. لكن هذا المسار بدأ بالتغير في العقد الثاني من حكمه، خصوصًا بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة عام 2016، والتي شكلت نقطة تحول كبيرة في علاقات أنقرة مع الغرب نحو التوتر.

وبالتوازي مع ذلك، شرع أردوغان، منذ تلك الفترة، في توطيد علاقته ببوتين. وفي الغالب، كانت هذه الشراكة المتنامية نتيجة لتدهور علاقات أنقرة بالغرب. ولكنها استمدت قوتها أساسًا من أسباب عميقة وموضوعية.

ويطمح أردوغان إلى تحويل تركيا إلى قوة قائمة بذاتها ولاعبًا مستقلًا في السياسات الإقليمية والدولية، ويسعى لتقليل اعتمادها على الغرب في المجالات الحيوية مثل الأمن والاقتصاد. وكذلك، الاختلافات الجيوسياسية التي ظهرت بين تركيا والغرب حول القضية القبرصية بعد حوالي عقدين من انضمام أنقرة لحلف الناتو، والتي ازدادت في النصف الثاني من العقد الماضي حول قضايا مثل سوريا وشرق البحر المتوسط، إلى جانب المصالح المتداخلة مع روسيا في سوريا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، كل هذا أسهم في تقليل تفاعلات أنقرة مع الغرب وزيادة تعاونها مع الشرق. علاوة على ذلك، عطّل التأخير في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي المفاوضات، وأكد للأتراك أن الأوروبيين ربما لا يرغبون في انضمام تركيا للاتحاد. ولهذا يرون أن المستقبل يكمن في بناء شراكات خارجية متنوعة مع الشرق والغرب دون التخلي عن ارتباطها المؤسساتي بالغرب، سواء كعضو في حلف الناتو أو كشريك اقتصادي مهم للاتحاد الأوروبي.

وهذه الأسباب ساهمت في الواقع ببروز مفهوم التأرجح التركي في السياسات الدولية، وتعزز هذا المفهوم بشكل أكبر في ظل المنافسة الجيوسياسية العالمية الحديثة بين الشرق والغرب. ومن المتوقع أن يُصبح هذا المفهوم سمة أساسية في تفاعلات تركيا مع الشرق والغرب على الأقل خلال الخمس سنوات المقبلة من ولاية أردوغان الرئاسية. ورغم أن تركيا، لعقود طويلة، لم تحدد هويتها الجيوسياسية بشكل واضح، فإن عضويتها في حلف الناتو وشراكتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي عبر اتفاقية الاتحاد الجمركي، قربتها من الغرب، لكنها لم تحولها إلى دولة غربية بشكل جيوسياسي. وكذلك، رغم تفاعلاتها المكثفة مع الشرق في السنوات الأخيرة، لم تصبح تركيا دولة شرقية من منظور جيوسياسي، وهذا لم يكن بديلاً عن ارتباطها المؤسساتي بالغرب. وعلى الرغم من أن التأرجح في السياسات الدولية يعكس غالباً الهوية الجيوسياسية المعتدلة لدول مثل تركيا، فإن أردوغان يرى فيه فوائد، حيث يساعد تركيا في تجنب الانخراط السلبي في المنافسة الجيوسياسية العالمية، ويُحوِّلها إلى فرصة لتعزيز استقلالها الإستراتيجي وتحقيق وضع قوي ومستقل في السياسات الإقليمية والدولية.

ويُمكن تلخيص الفوائد المتصورة للتأرجح التركي بـ 3 فوائد أساسية:

أولاً: استخدام مفهوم التأرجح وسيلة للحفاظ على الشراكات مع كل من الغرب والشرق وتوظيفها لإحداث توازن في العلاقات مع القوى الكبرى. ونتيجة لذلك، لم يؤد هذا التأرجح إلى قطيعة كاملة بين أنقرة والغرب، كما لم يُحدث التوجه الأوراسي تغييرًا جذريًا في التموضع الجيوسياسي لتركيا في السياسات الدولية.
ثانياً: يعمل التأرجح في السياسات الدولية على خلق مساحة لتركيا لتحقيق مصالحها الوطنية في تفاعلاتها مع القوى الكبرى. ومن خلال عضويتها في الناتو وشراكتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، تواصل تركيا الاستفادة من مزايا العلاقة مع الغرب في مجالات الأمن والاقتصاد مع تقليص اعتمادها على الغربيين في هذه المجالات. ومن خلال الشراكة مع روسيا، تمكنت أنقرة من إنشاء تعاون جيوسياسي مع موسكو في القضايا التي تتضارب فيها مصالحها مع الغرب كسوريا وبدرجة أقل في المجالات الدفاعية والاقتصادية. وعلاوة على ذلك، يُساعد هذا التأرجح تركيا في طموحاتها للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون مع الحفاظ على عضويتها في الناتو.

ويعمل التأرجح التركي على تعظيم الأهمية الجيوسياسية لتركيا بالنسبة للقوى الكبرى، بالنظر إلى دور أنقرة المتصاعد في سياسات الأمن والطاقة الإقليميين. وقد برزت هذه الأهمية على وجه خاص بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

وعلى عكس الدول التي ترتبط سياساتها الخارجية بشكل وثيق بهويتها الجيوسياسية، قدمت أنقرة نموذجاً مختلفاً في السياسة الخارجية يتجاوز، في بعض الأحيان، هويتها الجيوسياسية كجزء من حلف الناتو. ويبرز هذا النموذج بشكل واضح في موقف تركيا من الحرب الروسية الأوكرانية. ولم تنخرط أنقرة، على غرار الكثير من دول الناتو، في تسليح أوكرانيا على نطاق واسع أو في الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، وفضلت بدلاً من ذلك نهج التوازن الذي مكنها، من جهة، من الحفاظ على علاقاتها ومصالحها مع كل من موسكو وكييف. ومن جهة أخرى، من خلق هامش لتحسين موقفها في العلاقة مع كل من روسيا والغرب. وفي بيئة أمنية عالمية مضطربة، يساعد التأرجح في السياسات الدولية القوى المتوسطة الحجم مثل تركيا في الحد من تداعيات هذا الاضطراب على مصالحها مع القوى الكبرى.

أخيراً، يستمد مفهوم التأرجح التركي قوته من الحقيقة التي تُظهر هوة متزايدة بين تركيا والغرب، ومن وجهة نظر يبدو أن الطرفين يتوافقان عليها، ألا وهي أن هذه الهوة ليست مجرد انحراف ظرفي ومؤقت. ويعتقد أردوغان أن الغرب في حالة انحدار وأن عالماً جديداً متعدد الأقطاب بدأ في الظهور، وهذا يوفر فرصاً لتركيا لتصبح قوة مستقلة وفاعلاً مؤثراً في النظام العالمي الجديد المتوقع. وبينما يفقد الغرب قدرته على تحجيم الدول المتأرجحة مثل تركيا، يرى أردوغان الانحدار الغربي المتوقع فرصة لتعيين علاقات تركيا الخارجية بشكل جديد، باعتبارها فاعلة مستقلة تتعامل مع من ترغب وفقًا لمصالحها الوطنية. ولا يعني التأرجح التركي تغييرًا جذريًا في الهوية الجيوسياسية، ولكنه يساعد في تثبيت تركيا في كل المعسكرات، مع تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى.

عن الكاتب

محمود علوش

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس