ياسين أقطاي - الجزيرة نت

لعلم التاريخ خاصية غريبة. فهو يتأثر جدا بواقعنا الحالي وتجاربنا اليومية، لدرجة أنه صالح لإعادة الكتابة بصورة مستمرة، ومن ثم فإنه يخضع للتغيير بشكل حتمي. قد تتساءلون كيف يمكن للأحداث التي وقعت بالفعل، التي باتت جزءا من الماضي أن تتغير؟ يمكن للأحداث التي نعيشها اليوم أن تحدد المستقبل، ولكن كيف يمكنها التأثير في الماضي؟

الحقيقة المثيرة للاهتمام بخصوص كتابة التاريخ تكمن في الإجابة عن السؤال السابق.

بالطبع، ما يتغير ليس الأحداث التي وقعت في الماضي، بل طريقة إداركنا لها هي التي تتأثر بظروفنا الحالية. مخطئ من يظن أن معرفتنا وتصوراتنا عن الماضي تتغير فحسب، عند الكشف عن وثيقة أو معلومة سرية جديدة بشأن حدث ما. من المؤكد أن هذا النوع من المعلومات يمكن أن يغير وجهة نظر كثير من الناس تجاه أحداث الماضي، ولكنها ليست العامل الوحيد الذي يغير معرفتنا بالتاريخ.

الأمر كله يتعلق بزاوية نظرنا إلى الأحداث، مصالحنا، وقيمنا، ومشاعرنا، وحبنا وكراهيتنا، و"الأيديولوجيات" التي نتأثر بها. هذه المشاعر والتأثيرات لا تؤثر في نظرتنا إلى التاريخ فقط، بل حتى في نظرتنا وقراءتنا للأحداث الحالية. نعيش هذه التجربة عندما نلاحظ كيف تتباين تغطية الحدث الإخباري نفسه على قنوات التلفزيون المختلفة في اليوم نفسه. وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ، تصبح الظاهرة أكثر حدة، فنحن نملك رغبة قوية لإصدار أحكام نهائية -تتفق مع رؤيتنا المسبقة- على أحداث لم يعُد بإمكاننا الحصول على معلومات، أو وثائق، أو دلائل جديدة عنها.

التاريخ إذن على أرض الواقع هو الميدان الذي نخوض فيه صراعاتنا الأيديولوجية الحالية، وهو مستودع الذخيرة الذي نستخدمه لتعزيز موقفنا الحالي. إنه مصدر يوفر الذخيرة التي يحتاجها الجميع. عندما نعرف هذه الطبيعة للتاريخ، نصل إلى مستوى أعلى من الوعي بالإنسان.

لقرون، قُدِّم لنا التاريخ على أنه مجرد سرد لحياة الملوك وحروبهم المتتالية، مثل فيلم تتتابع فيه الأحداث. هذا التاريخ هو تاريخ الدول والقصور والملوك. وقد أسهمت جهود كارل ماركس في نقد التاريخ إسهاما مهما في جذب الانتباه إلى الطبقات. ومنذ ذلك الحين، بدأ الناس ينتبهون ليس إلى تاريخ الدول أو الطبقات الحاكمة فقط، ولكن إلى تاريخ الطبقات الثانوية والشعوب كذلك.

ومع ذلك، كان تصور ماركس للتاريخ مبنيا على مفهوم "الطبقة"، وهي نافذة ضيقة لا تعطي صورة شاملة للتاريخ. فمهما قال ماركس عكس ذلك، فإنه لا يمكن أن يكون التاريخ محصورا في الطبقات وصراعاتها.

أسهم المنظور الأوسع الذي قدمته المدرسة الحولية للتاريخ في لفت انتباهنا إلى حقيقة أن تاريخ الإنسانية غني ومتنوع جدا، بحيث يستحيل اختزاله في قصة واحدة. وساعد هذا الفهم الجديد في إنتاج قصص مختلفة عن التاريخ لا تقتصر على سير الملوك، والدول والحروب والطبقات. بل تغطي مناطق أخرى، كالتاريخ الثقافي والاقتصادي والاجتماعي للفلاحين، والتاريخ الاجتماعي والثقافي للمدن، وتاريخ النشاطات الثقافية لفئات المجتمع المختلفة؛ مثل: الأعراس، والزواج، والعلاقات مع الدولة، وتطور آليات تشكيل القيادة داخل تلك المجتمعات وغيرها، حتى إن بعض المؤرخين كتبوا عن تاريخ التصورات حول النظافة والقذارة. بل كُتب تاريخ المراحيض والحمامات، وكثير غيرها.

كل هذه الأمور أسهمت في تنويع معرفتنا بالتاريخ في عصرنا، وأثارت أملا في تطوير مستوى أعلى من الوعي حول كيفية النظر إليه. التاريخ يعطيك الأجوبة بناء على الأسئلة التي تطرحها، ويسكت عما لم تسأل عنه، ولذا فهو ليس محصورا في الأسئلة التي سألناها، والأجوبة التي حصلنا عليها.

ولهذا فلصياغة السؤال الذي نبحث عن إجابته أهمية كبيرة، لأنه يحدد ما يمكن أن نجده أو لا نجده، وإذا فقدنا الوعي بطبيعة السؤال الذي نسأله، فإننا نكون معرضين لخطر البقاء ضمن حدوده. وبناء على ذلك فإننا يجب أن نكون حذرين للغاية، ألا تؤدي الأسئلة التي نطرحها إلى تقييد أو تعميم وجهة نظرنا تجاه التاريخ.

هذه حقيقة يجب أن يكون على دراية بها أولئك الذين يتصدون لقضايا تاريخية ترتبط بواقعهم. لكن كما هو الحال دائما، يفقد المنهج التاريخي نزاهته ويعجز عن رسم صورة أقرب لحقيقة المرحلة أو الحدث الذي يدرسه، عندما يضفي الطابع المطلق على الإجابات التي تلقاها على أسئلة ضيقة، وعندما يعمم الحالات الفردية التي يقع عليها على أنها الصورة الشاملة.

على سبيل المثال، إذا طرحت سؤالا حول الدماء التي أُريقت في تاريخ الإسلام، وسجّلت البيانات التي جمعتها واحدة تلو الأخرى، فقد تقع في وهم تصور أن التاريخ لم يكن إلا سلسلة من سفك الدماء بين الإخوة. أنت هنا لا ترى الأحداث الأخرى التي وقعت في تلك الفترة؛ فسؤالك الضيق المحدد والإجابات التي حصلت عليها يتناولان هذا الموضوع فحسب. وإذا كنت مؤرخا جيدا ولديك الوعي الكافي، فستدرك أن سؤالك البحثي يحتجزك هناك، وسوف تفترض وجود أمثلة ممتازة للأخوة عاشها الناس في مجالات أخرى من التاريخ أيضا.

وهكذا، إذا كتبت تاريخ الخيانات، فقد تصل إلى انطباع أنه لم يكن هناك صداقات، أو أمثلة للولاء في التاريخ. وإذا كتبت تاريخ المؤامرات داخل الحريم كما في مسلسل "القرن العظيم" [حريم السلطان]، فقد تصاب بوهم أن الإمبراطورية العثمانية كلها كانت تُدار من الحريم. في الواقع، نظرتك والسؤال الذي طرحته يجعلان كل كلمة وحدث وحركة داخل الحريم جزءا من مؤامرة في القصة. ولن ترى أيا من الأمثلة الرائعة التي قدمتها الإمبراطورية العثمانية في الحياة الاجتماعية، والهندسة المعمارية، والاقتصاد، والتوزيع العادل، والتسامح الديني، والاهتمام بالعلوم والفلسفة، ومجال العلوم والتقنية في ذلك القرن الرائع.

ومع ذلك، كان من أهم الإجراءات التي اقترحتها المدرسة الحولية في التاريخ، ولاحقا فوكو في كتابته التاريخية المستوحاة من نيتشه، هي تفكيك الكل وتنويعه. إن المنظور الشمولي للمؤرخ يقتل علم التاريخ؛ لأنه ينسب كل حدث إلى القصة التي أنتجها منظوره، ويجعلها تفقد معناها الأصلي.

هناك نمط من الناس يصفهم الكاتب في صحيفة ستار التركية، إرغون يلدريم، بأنهم "عقليات منسلخة"، تحاول التحلل من تاريخها ومجتمعها وقيمها الموروثة وتراثها، ولدى هذا الصنف من الناس رغبة محمومة لإعادة كتابة تاريخ الإسلام، بصورة تنسب له في جمل قصيرة، كل نقيصة، وتجرده من كل فضيلة.. هذا الصنف من الناس هو نموذج مثالي لفهم وإدراك هذه العيوب، التي يعاني منها كتّاب التاريخ والناظرين فيه.

هناك شخص عاش لسنوات عديدة على القرآن، ويزعم في أحاديثه ألا أحد يفهم القرآن سواه، لكنه وقف مؤخرا، عندما انتقد أناس بعض أفكاره الغريبة، ليزعم أن كل تاريخ الإسلام هو مسرح للتعصب وعدم التسامح.

حسنا.. فليقل ذلك كما يشاء، ولكن، ماذا كان يفعل هو لكل من حوله لسنوات؟ بماذا نصف تلك الأحكام التي أصدرها على كل من لم يتفقوا معه في فهمه للقرآن؟ هل يمكن أن يكون الإنسان مطلقا للأحكام على من حوله، ومتسامحا في الوقت نفسه؟ هل يمكن أن يكون الإنسان متعصبا لرأيه لتلك الدرجة، ثم يشتكي من التعصب في تاريخ الإسلام؟ بل وأكثر من ذلك، نحن نسأله: من أي زاوية نظر إلى هذا التاريخ؟ وأين بحث؟ وماذا سأل؟

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس