ترك برس

تهدف الدراسة إلى دراسة الأوضاع العثمانية في آخر عهدها، من خلال التطرق لأسباب الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية في آخر عهدها، والاطلاع على الخطوات الإصلاحية الذي طبقتها من أجل الخروج من حالة الضعف، وفي النهاية سيتم دراسة التأثيرات التي خلّفتها الإصلاحات العثمانية على الولايات العربية وخاصة بلاد الشام.

الدراسة ستكون على ثلاث مراحل؛ في المرحلة الأولى يتم شرح الأوضاع العامة للدولة العثمانية في آخر عهدها وأسباب الضعف الذي أصابها، والمرحلة الثانية ستشرح الخطوات الإصلاحية التي طبقتها الدولة العثمانية من أجل القضاء على الضعف، والمرحلة الثالثة والأخيرة ستطلع على التأثيرات التي خلفتها الإصلاحات العثمانية على الولايات العربية.

شهدت حركة الإصلاح العثماني مطلع الثلاثينات من القرن التاسع عشر تحولا حاسما في تاريخها، بظهور تيار جديد في الدولة العثمانية يدعو إلى ضرورة إصلاح الدولة وتطويرها ، وهو الاتجاه المعروف بـ"التنظيمات العثمانية". بدأت هذه التنظيمات رسميًا مع عهد السلطان عبد المجيد الأول 1839- 1861، واستمرت بشتى ألوانها حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914م.

ورغم أن عددًا من المؤرخين يعود بجذور التنظيمات العثمانية إلى عهد مصطفى الثالث 1757- 1774 باعتبار عهده منطلقا جديدا في تاريخ الدولة العثمانية، فقد ظهرت فيه بوادر إصلاح الجيش والمالية، ونهايتها باندلاع الحرب العالمية الأولى في عام  1914، إلا أنّنا سنقف على دراسة هذه التنظيمات في الفترة الممتدة من 1839 - 1876 بالتعرض إلى خلفياتها ومظاهرها، وأهم المواقف منها، وتأثيراتها بخاصة على الولايتين العربيتين (الشام والعراق).

أولاً: الأوضاع العامة للدولة العثمانية أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر

ظلت الدولة العثمانية ولفترة طويلة من الزمن، تعيش على رقعة واسعة تمتد عبر قارات العالم القديم ويحيا فيها أجناس مختلفة من شعوب متنوعة وأديان متعددة، وكانت القوة العظمى التي تؤتر في مجرى السياسة العالمية، ولكن ابتداء من القرن الثامن عشر، أتى عليها حين من الدهر أخذ فيه الضعف يدب في أوصالها، وبدأت إمارات الشيخوخة تأخذ طريقها إلى جسد الدولة، واستمر ذلك إلى غاية مطلع القرن العشرين.

ضعف الدولة العثمانية

اجتمع المؤرخون على أن بذور التدهور العثماني ترجع إلى عوامل متعددة، فمنهم من يرى أن هذا التدهور يكمن في البناء الاساسي للإمبراطورية، وفي انحلال نظمها الداخلية ذاتها منذ القرن السابع عشر(1). ومنهم من يرى أن أسباب ضعف الإمبراطورية تكمن في الضغوط الخارجية، وفي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي كانت عرضة لها بعد هذا القرن، والتي لا تقل أهمية عن الأخرى وكانت كلها عوامل متداخلة أدت في النهاية إلى الانهيار العام الذي اصاب الإمبراطورية(2).

أ- الضعف في الميدان العسكري

بدأ اختلال أمور الدولة أول ما بدأ باختلال  نظام الانكشارية بفقدان الجيش العثماني كل ما كان له من مزايا، وتحوله في الفترة الأخيرة إلى آلة فساد وفوضى بوقوعه تحت قيادة فاسدة، فأصبح مطية لتنافس رجال الدولة وأمراء الأسر المتنفذة، وأضحى أفراده لا يجتمعون إلا لرفع العصيان والمطالبة بزيادة العلوفات، أو بطلب عزل وزير وتنصيب أو شنق جماعة من الوزراء، مندفعين وراء ذلك بتسويلات أرباب المنافع والأغراض وأبطال الدسائس والمؤامرات، فتضائل ارتباطهم بثكناتهم وصلاحياتهم للحرب والقتال، وازداد تسلطهم على الناس، فتكررت حوادث تعديهم على الأموال والأرواح داخل البلاد. وزاد من خطورة هذا الأمر تفاقم عجز الجيش أذ أصبحت أغلب الحروب التي تخوض غمارها السلطنة كثيرا ما تنتهي بهزائم شنيعة، فأخذت بذلك حدود الدولة العثمانية تتراجع في الجهات المتاخمة لدولة أوروبية، ناهيك عن الصراع الدامي الذي نشب بين المؤسسة العسكرية والسلطة.

واستمر لأكثر من ثلاثة قرون، هذا الصراع لم يضعف الإمبراطورية فحسب بل منعها من الفتوحات وجعلها تنحصر داخل حدودها، فتحولت من فاتحة للبلدان إلى مدافعة ضعيفة تخاف سطوة آلتها العسكرية، واشتد هذا الصراع خاصة حين استفحل تدخل الإنكشارية في شؤون الحكم والسياسة، إلى درجة أنهم أصبحوا يعزلون الوزراء والسلاطين معا، ويتمردون في الحروب، فكثرت بذلك سطوتهم وثوراتهم على السلطة، فكانت النتيجة أن دبروا اغتيال السلطان سليم الثالث(3) 1808م.

ب- ضعف الميدان الإداري

زاد على الضعف في المجال العسكري ازدياد تدهور الدولة العثمانية بانحطاط أمورها الإدارية وانغشاشها بوجه عام، الأمر الذي فسح مجالًا واسعًا لاشتداد حركات التمرد والثورة داخل الولايات العثمانية، والتي استفحل أمرها خاصة خلال القرن الثامن عشر بعد اختلال التوازن الذي كانت قوانين السلطان سليمان القانوني(4) قد عملت على تحقيقه، هذا الاختلال تجسد في فقدان الحكومة المركزية سلطتها على الأقاليم، واحتدام النزاع بينها وبين العصبيات المحلية الثائرة، زيادة على أعمال النهب والتمرد على السلطة من جانب القبائل البدوية، وتطلّع الفعاليات المحلية والأعيان من أسر متنفدة وإقطاعيين ولا سيما في الولايات العربية، إلى استقلال وانفراد في الحكم في مناطقهم، فأخذ معظم الولاة في هذه المناطق ينزعون إلى استخدام القوة العسكرية التي بين أيديهم لتحقيق أهدافهم وأغراضهم الشخصية، فراحت تتنافس على عملية النهب واحتكار الموارد الاقتصادية لهذه الولايات. ولم تكتفِ هذه القوى بذلك بل استعانت وتحالفت في كتير من الأحيان مع القوة الأوروبية، لمساعدتها ودعمها ماديا ومعنويا، وحتى عسكريا فعَمّت البلاد من جراء ذلك الفوضى والفساد.

ج- ضعف الميدان الديني 

وأضاف إلى الضعف السابق كله ازدياد نفود الهيئة الإسلامية الممثلة في شيخ الإسلام، وكبار العلماء والوُعّاظ والأئمة، إذ شكّلت هذه الهيئة حلقة اتصال مباشرة بين الدولة والمجتمع. فبإشرافها على الأوقاف والقضاء والتعليم، والمشاركة في مجالس الدولة، احتلت موقع دينيا واجتماعيا واقتصاديا مهمًا من خلال تقديمها للغطاء الشرعي لما تمارسه السلطة الحاكمة من ممارسات، وما تصدره من قوانين تبوأت مركزا سياسيا كبيرا تزامن مع ضعف سلطة السلاطين العثمانيين مند نهاية القرن السابع عشر، مما أفسح المجال لظهور أرستقراطية من العلماء، عملت على تدعيم نفوذها خاصة في القرن الثامن عشر، وهذا أدّى بدوره إلى انخراط الهيئة الإسلامية في صراعات داخل الهيئة الحاكمة عبر تحالفاتها السياسية والعسكرية مع الانكشارية، وذلك بعدما أصبحت جزءًا من مراكز القوة داخل السلطة.

د- ضعف الميدان الاقتصادي

وما زاد في تفاهم هذه الأوضاع سوء الأحوال الاقتصادية واضطرابها، وسبب ذلك أن البناء الأساسي للنظام الاقتصادي العثماني كان مستمدا من التقاليد العثمانية البيزنطية والعربية السلامية القديمة، والتي لم تطورها الدولة العثمانية مع تطورات الاقتصادية الأوروبية، مما سمح بغزو اقتصادي أوروبي لسوق المحلية العثمانية(5) التي تحولت إلي سوق استهلاكية تغزوها المنتجات الأوروبية، ورغم كون الدول العثمانية دولة زراعية، إلا أن مساهمتها في تطوير مجالها الزراعي كانت معدومة بسبب فساد الالتزام والفوضى التي أصابت الإقطاعيات  العسكرية كثيرا في تدهور مردود الفلاح الإنتاجية، وجلا السكان عن الأرياف، فتقهقرت الزراعة والحرف في آن واحد، قابلها تدهور الصناعة والتجارة، مما أدى إلى انكماش الموارد المالية للسلطنة وزعزعتها، وإنزال الضرر بالطبقات المنتجة العثمانية.

هـ- ضعف الميدان الخارجي

وفي الوقت الذي كانت فيه أداة الحكم العثماني تصاب بتدهور شديد في الميدان الداخلي، لحقت بالدولة العثمانية في الميدان الخارجي هزات خطيرة نتيجة تلك الحروب الطويلة الأمد التي خاضتها، مع امتداد القتال في جبهات مختلفة من العالم، وذلك الاضطراب الداخلي الذي أسفرت عنه إذا أنهكت كاهل الجند، واستنزفت أموال وموارد البلاد كالحرب الإيرانية، التي كانت شديدة علي الدولة العثمانية بسبب الثورات المتعاقبة ضدهم في آسيا الصغرى. كما تأكد ضعفها كذلك أمام ظهور النمسا وروسيا كدولتين مهاجمتين متوسعتين علي حسابها، وغدت هاتان الدولتان في حالة حرب تكاد لا تنقطع مع الدولة العثمانية حتى استنفدت قوتها وحيويتها(6).

وتحققت هزائم الدولة العثمانية أمام النمسا ابتداء من القرن السابع عشر، في موقعتي موهاكس  1687م وزانتا 1697م، ووُقِّعت معاهدة كارلوفيتس 1699 م وبموجبها أجبرت الدولة العثمانية علي التنازل عن أراضي تشكل جزءا لا يتجزأ من أملاكها، تنازلت عن ترانسلفانيا وغالبية أراضي هنغاريا  وشبه جزيرة المورد  للبندقية  فشكلت هذه المعاهدة منعطفا خطيرا في حياة الدولة العثمانية فلم تعد بعد ذلك الخصم العنيد الذي يهدد المسيحية الغربية، على أن الصراع بين الدول  العثمانية وروسيا كان أكثر خطرا وشدة في هذه الفترة وخاصة في عهد بطرس الأكبر  وكاترينا الثانية، إذا فشلت العثمانية أمام التهديد الروسي وفي صد توسعاته علي أراضيها.

وكانت الحرب العثمانية نكبة على السلطان، إذ تمخض عن هذه الحرب الطويلة تصدع وانهيار شامل في بناء الدولة، انتهى بتوقيع معاهدة كوتشك كيناجه 1774م، التي تعد حجر الزاوية في العلاقات الروسية العثمانية، إذ تنازلت الدولة العثمانية لروسيا عن شبه جزيرة القرم وضمتها إليها بعد ذلك بتسع سنوات، كما سمح لها بإنشاء قنصليات وحرية التجارة في ممتلكات الدولة العثمانية، وازداد نفوذ روسيا في السطو على الأراضي العثمانية بعد معاهدة جاسي 1792م، حيث غنمت روسيا كل المناطق الاستراتيجية المطلة علي البحر الأسود، ومنذ ذلك الحين أخذت روسيا تمارس ضغطا لا هوادة فيها علي الإمبراطورية العثمانية، مستخدمة أسلحة السياسة والوحدة الأرثوذكسية، فضلا عن الاعتداء العسكري الصريح لتحقيق أهدافها. فأدى هذا الأحداث إلي اختلال موازين القوى بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية بانتقال زمام المبادرة إلي جانب الأوروبي الذي ازداد تدخله وتحكمه في مصير الدولة العثمانية.

يُتبع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) احمد هريدي علي صلاح . دراسات في تاريخ العرب الحديث , دار الوفاء لدنيا القاهرة 1990-2000 ,ص80 

(2)  عمر عبد العزيز عمر . دراسات في تاريخ العرب الحديث , الشرق العربي من الفتح العثماني حثى نهاية القرن الثامن عشر , ج1 , دار النهضة العربية للطباعة والنشر , بيروت 1971, ص109

(3)  ساطع الحضري . البلاد العربية والدولة العثمانية , دار العلم للملايين بيروت 1960,ص47,48

(4) ساطع الحضري . المرجع السابق , ص49

(5)  قيس جواد الغزاوي . الدولة العثمانية , قراءة جديدة لعوامل الانحطاط , ط1 , مركز دراسات الاسلام و العالم تامبا , فلوريدا الولايات المتحدة الامريكية ,1994 ,ص14

(6)  محمد صفوت مصطفى . محاضرات في المسألة الشرقية و مؤتمر باريس , معهد الدراسات العالمية , جامعة الدول العربية , 1958 , ص 2

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!