سمير العركي - الجزيرة

أقلّ من أربعة أشهر فقط تفصل الناخبين الأتراك، عن الانتخابات البلدية؛ لذا كان من الطبيعي بدء الحديث الجِدّي عن الانتخابات التي تلي في أهميتها الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وترسم جميعها مستقبل البلاد السياسي لسنوات مقبلة.

ففي الأيام القليلة المقبلة، سيتبيّن الخيط الأبيض من الأسود بشأن المرشحين، والتحالفات، وملامح المعركة الانتخابية.

حصول حزب العدالة والتنمية على الأغلبية ليس محل شك أو نقاش، فنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في مارس 2019، تعكس أرقامها اكتساحًا كبيرًا للحزب منفردًا، ولتحالف الجمهور الذي ضمّ الحزب ومعه حزب الحركة القوميَّة.

لكن هذه الأرقام انطفأ بريقها؛ بسبب خَسارة الحزب بلديات كبرى مهمة ذات رمزية كبيرة، وفي مقدمتها بلديات: إسطنبول، وأنقرة، وأنطاليا، وديار بكر، ومرسين، وأضنة وغيرها.

لذا، فإن العنوان الأبرز لانتخابات مارس المقبل- والمتداول بشدة في تركيا الرسمية والشعبية- يتمحور حول قدرة حزب العدالة والتنمية على استرداد رئاسة بلديات كبرى، وفي مقدمتها إسطنبول وأنقرة؟

ماذا في جَعبة أردوغان؟

من يتابع تصريحات الرئيس التركي بشأن رئاسة بلدية إسطنبول- منذ خسارتها في 2019- فلن يحتاج إلى جهد لإدراك أن تلك الخسارة تركت أثرًا سلبيًا داخله، لن يذهب إلا باستردادها مجددًا.

فقد أكد في اجتماع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية نهاية نوفمبر المنصرم، أن الهدف الرئيسي للحزب، هو استعادة إسطنبول، وأنقرة.

وإذا ما تتبعنا تصريحات أردوغان خلال الفترة الأخيرة، وتحركاته داخل حزبه، يمكننا رسم تصور كلّي للإستراتيجية التي سيعتمدها خلال هذه الانتخابات وأبرز ملامحها:

أولًا: الاستفادة من الفوز العريض الذي أحرزه تحالف الجمهور في مايو الماضي- والذي مكّنه من اقتناص أغلبية مقاعد البرلمان، ومنصب الرئاسة لدورة ثانية- بمنح تحالفه دفعة كبيرة في المدن الكبرى.

ثانيًا: استغلال الأخطاء التي ارتكبها رئيسا بلديتي إسطنبول، وأنقرة: أكرم إمام أوغلو، ومنصور يافاش، خلال السنوات الخمس المنصرمة، خاصة في إسطنبول، حيث فشل إمام أوغلو، في تأكيد جدارته بالمنصب؛ بسبب هوسه بحلم رئاسة الدولة، فاهتمّ بالدعاية لشخصه، على حساب مطالب سكان إسطنبول.

لذا تراجعت الخدمات، ولم ينجح مساعدوه في تسيير منظومة العمل داخل المدينة، مثلما كانت خلال رئاسة العدالة والتنمية.

ثالثًا: تعزيز تحالف الجمهور من خلال الشريك الأهم حزب الحركة القومية، حيث التقى أردوغان برئيس الحزب، دولت بهجلي، مؤخرًا في القصر الرئاسي.

لكن في تقديري أن استمرار حزب "الرفاه من جديد"، الذي يترأسه فاتح أربكان، في التحالف محل شك، فالمؤشرات التي تأتي من الحزب، حتى الآن، تشير إلى احتمالية خوضه الانتخابات منفردًا .

أمّا حزب الدعوة الحرة "هدا بار"- وهو حزب كرديّ محافظ، والذي كان أبرز الأحزاب الصاعدة في انتخابات مايو الماضي- فالتقديرات أن يواصل صعوده في الانتخابات البلدية، حيث يحتاج إليه تحالف الجمهور لإحداث اختراق في كتلة الناخبين الأكراد في إسطنبول بصفة خاصة، وأيضًا ولايات الجنوب الشرقي.

فعلى خلاف حزب "الرفاه من جديد" النخبوي، يتمتع حزب "الدعوة الحرة" بوجود شعبوي واضح، بفضل نشاطاته المتعددة، وآخرها تفاعله الجيد مع العدوان الإسرائيلي على غزة، كما يتمتع الحزب بوجود كوادر شبابية فاعلة سواء على أرض الواقع، أم على مواقع التواصل الاجتماعي.

رابعًا: اختيار المرشحين الأكْفاء، وهذه هي النقطة الأهم، فالإعلان عن أسماء مرشحي الحزب – بحسب أردوغان- سيبدأ منتصف الشهر الجاري.

وما يشغل الرأي العام منذ فترة، هما مرشحا الحزب لرئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة، على وجه الخصوص.

ففي إسطنبول، تدور التكهنات، حول اسم وزير التخطيط العمراني السابق، مراد قوروم، الذي يتميز بصغر سنّه، ولديه سجل حافل في إعادة إعمار مناطق ضربتها كوارث طبيعية، وآخرها الولايات التي ضربها الزلزال المدمر في فبراير الماضي، حيث بدأ عملية الإعمار على الفور، قبل أن يستقيل للترشح لانتخابات البرلمان.

كما طُرح اسم وزير الصحة الحالي، فخر الدين كوجا، الذي أثبت نجاحًا واضحًا في التعامل مع أزمة جائحة "كورونا"، لكن تكوينه الأكاديمي قد لا يناسب طبيعة عمل البلديات.

لكن في تقديري أن الشخصية الأقرب إلى الترشح، هو توفيق كوكصو، الشقيق التوأم لسفير تركيا في قطر، محمد مصطفى كوكصو، حيث أثبت توفيق كفاءة كبيرة خلال رئاسته بلدية إسنلر بإسطنبول، كما أنه يشغل منصب رئيس مجموعة حزب العدالة والتنمية في مجلس بلدية إسطنبول، وسبّب إزعاجًا كبيرًا لأكرم إمام أوغلو، خلال السنوات الماضية، سواء من خلال المناقشات داخل مجلس البلدية، أم في وسائل الإعلام، كما أنه على دراية دقيقة بمشاكل إسطنبول وما تحتاجه من تطوير.

أما في أنقرة، فتدور استطلاعات الرأي حول أسماء: مراد كوسه، وتورغوت ألتينوك، وهاكان هان أوزجان، وهي أسماء غير متداولة في وسائل الإعلام العربية.

ليس كل ما يتمناه أردوغان يدركه!

في تقديري أن طريق حزب العدالة والتنمية إلى استرداد بلديتي إسطنبول وأنقرة لن يكون مفروشًا بالورود، وقد يتجدد إخفاق انتخابات 2019 مرة أخرى، حتى في ظل تراجع شعبية إمام أوغلو، ومنصور يافاش.

ففي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في مايو الماضي، تفوق مرشح المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، في الجولة الأولى، على أردوغان في إسطنبول بفارق حوالي 2%، وفي أنقرة بأكثر من 1%، ثم عاد في الجولة الثانية ليزيد الفارق في إسطنبول إلى أكثر من 3%، وفي أنقرة إلى حوالي 4%.

فقد توقّع كثيرون أن يتسبب الأداء السيئ لأكرم إمام أوغلو، في اكتساح أردوغان إسطنبول على وجه الخصوص، لكن ما حدث كان العكس!! حيث تفوق كليجدار أوغلو في بلديات تعد معاقل للمحافظين الأتراك، مثل: بلديتي أيوب سلطان في القسم الأوروبي، وأسكودار في القسم الآسيوي، حيث محل إقامة أردوغان نفسه!!

ومع التأكيد على اختلاف معايير اختيار الناخبين من الانتخابات الرئاسية إلى البلدية، لكن هذه مؤشرات يمكن الاستئناس بها.

وأخيرًا، فإذا كانت نتائج ولايات الأناضول نجحت في جبر التراجع الحاصل في المدن الكبرى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فإن الانتخابات البلدية ستجرى على قاعدة: "ساعد نفسك بنفسك."

عن الكاتب

سمير العركي

كاتب وصحفي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!