د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
في قلب الصراع على القدس، وقف القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي أمام تحدٍ غير مسبوق، حيث كانت القدس مهددة من قبل القوى الصليبية التي اتخذت من الحملات العسكرية المتتالية وسيلة للسيطرة على هذه الأرض المقدسة. وكان الدفاع عن القدس بالنسبة لصلاح الدين أكثر من مجرد معركة؛ بل كان رسالة وإيمانًا بمسؤولية الدفاع عن مقدسات المسلمين وحماية كرامة الأمة. وأمام هذا الواقع الملح انطلقت رؤية صلاح الدين الاستراتيجية لتحقيق هدفه، إذ أنه عمل على مدار سنوات على توحيد الجبهات الإسلامية وتكوين جيش عظيم يمتاز بالانضباط والإخلاص، مدعومًا بتحصينات دفاعية في ذلك العصر. لم تكن هذه التدابير مجرد تحركات عسكرية، بل كانت ثمرة تخطيطٍ طويل الأمد، استند إلى تنظيمٍ محكم للجيش، وتقوية إمدادات الموارد اللازمة للصمود في وجه أعداء غاصبين حاقدين كثر، وقام صلاح الدين بتدابير آنية للدفاع عن المدينة المقدَّسة منها:
1 ـ قسَّم أسوارها على أمرائه، وجهَّزهم بما يحتاجون إليه للمقاومة.
2 ـ أفسد مصادر المياه المحيطة بالمدينة؛ بحيث لم يبق حول بيت المقدس ما يُشرب أصلاً، مما سيجعل العدو في حالة عطشٍ شديدٍ؛ إذا حاول الهجوم عليها.
3 ـ استدعى القوات من الأطراف، فجاءه الملك الأفضل مع العساكر الشَّرقية، وبدر الدين دلدرم الياروقي من التركمان، وعز الدين بن المقدَّم.
4 ـ قيام فرسان المسلمين بشن غارات مفاجئة وخاطفة على معسكر الصليبيين (تاريخ الأيوبيين، محمد سهيل طقوش، ص196).
ثم عقد صلاح الدين في 19 جمادى الآخرة/أول تموز اجتماعاً في بيت المقدس مع أركان حربه للتشاور في أفضل السُّبل للدِّفاع عن المدينة ضد الحشود الصَّليبية، وطلب السُّلطان من القاضي ابن شدَّاد أن يفتتح الجلسة، فتحدَّث هذا في بداية كلامه عن فضل الجهاد ودعاهم إلى الاقتداء بالرَّسول الأعظم، فاستحسن الجميع كلامه ثم سكتوا؛ وكأنَّ على رؤوسهم الطير، وبعد هنيهةٍ شرع صلاح الدين في الكلام، وضِمْن ما قاله: إنَّ دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقةٌ في ذممكم، فإنَّ هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه إلا أنتم، فإن لويتم أعِنَّتكم؛ طوى البلاد كطيِّ السِّجل للكتاب، وكان ذلك في ذمَّتكم، فإن أنتم الذين تصدَّيتم لهذا، وأكلتم مال بيت المال، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم، والسلام. فأجابه الأمير سيف الدين المشطوب فقال: يا مولانا، نحن مماليكك وعبيدك، وأنت الذي أنعمت علينا وكبَّرتنا وعظَّمتنا، وأعطيتنا وأغنيتنا، وليس لنا إلا رقابنا، وهي بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلا أن يموت!! ووافق على كلام المشطوب بقية الحضور، فَسُرَّ بذلك السلطان، لكن الأمراء سرعان ما تراجعوا عن موقفهم في اليوم التالي، كما أخبر بذلك أبو الهيجاء، فقد أعلنوا أنه من الخطأ أن يحصروا أنفسهم داخل القدس؛ لأنهم يخافون أن يجري عليهم ما جرى على أهل عكَّا. وأنهم يرون أن يكون لقاؤهم خارج أسوار القدس، وقالوا: إنْ قدَّر الله أن نهزمهم؛ ملكنا بقية بلادهم، وإن تكن الأخرى ـ أي الهزيمة ـ سلم العسكر، ومضت القدس (الجيش الأيوبي، محسن حسين، 485).
لم يقتنع صلاح الدين بجواب الأمراء؛ لأنَّ أمر القدس عنده أمرٌ عظيم لا تحمله الجبال، وهم قد ردُّوا عليه بخشونه اعتادوا عليها منذ أمدٍ كما ذكرنا، ويبدو أنَّ الصراع بين عناصر جنده وأمرائه من الأكراد والتُّركمان قد بلغ مستوىً خطيراً، وظهر ذلك من كلامهم حين قالوا: إنَّك إن أردتنا فتكون (داخل القدس) معنا، أو بعض أهلك، حتى نجتمع عنده، وإلا فالأكراد لا يدينون للأتراك، والأتراك لا يدينون للأكراد.
والواقع أن صلاح الدين صار في وضعٍ لا يحسد عليه، وقد أحسَّ ابن شدَّاد بهذا العجز بوضوح حين طلب منه أن يفوض أمره إلى الله، وأن يعترف بعجزه أمامه فيما تصدَّى له، لعلَّ الله يستجيب لدعائه، وقد رآه المؤرخ وهو يصلِّي؛ ودموعه تتقاطر في مصلاَّه حين يسجد، ومرَّ يوم الجمعة الثقيل، ثمَّ جاء رجال استخباراته ليعلنوا: أنَّ الصليبيين قرروا إيقاف زحفهم تجاه القدس.
يقول ابن الأثير: إنَّ ريتشارد طلب من الصليبيين القدامى «الفرنج الشاميين» أن يصوروا له وضع مدينة القدس، والاستحكامات التي أقامها صلاح الدين حولها، فصوروا له كلَّ ما طلب، وحين دقَّق في وضع المدينة؛ قال: هذه مدينة لا يمكن حصارها ما دام صلاح الدين حياً، وكلمة المسلمين مجتمعةً. وهذا الموقف جعل الصليبيين ينقسمون بين مَنْ يطالب بالهجوم على القدس، وبين من ينادي بالتوقُّف، وكان ريتشارد مع الفريق الثاني. في حين كان الفرنسيون مع الرأي الأول حين قالوا: نحن إنَّما جئنا من بلادنا بسبب القدس، ولا نرجع دونها. وردَّ عليهم ريتشارد: إنَّ هذا الموضع قد أفسدت مياهه، ولم يبق حوله ماءٌ أصلاً، فمن أين نشرب؟ فقالوا: نشرب من ماء نقوع الواقعة بالقرب من القدس بمقدار فرسخ، ونكتفي بالشرب في اليوم مرَّةً واحدة وقد لجأ الصليبيون إلى مبدأ الانتخاب، وأخذ الأصوات، لتحكيم رأي الأغلبية، فكان القرار هو إيقاف الهجوم، فرحلوا نحو الرَّملة. وسُرَّ بذلك السلطان كثيراً (صلاح الدين، علي الصلابي، 507).
المراجع:
1. صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
2. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.
3. الجيش الأيوبي في عهد صلا الدين، د. محسن محمد حسين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1406هـ 1980م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس