
ترك برس
تناول تقرير تحليلي بصحيفة يني شفق التركية للسياسي والبرلماني السابق ياسين أقطاي، ظاهرة الانبهار السريع في العالم الإسلامي، وتحديدًا في تركيا، بمن يوجهون انتقادات لسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل، دون التحقق من مواقفهم الأخرى أو خلفياتهم السياسية.
ومن خلال استعراض حالة جيفري ساكس وتصريحاته في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، قبل أيام، يكشف التقرير كيف أن انتقاد ساكس الموجه لأمريكا وإسرائيل حجب حقيقة مواقفه الداعمة لأنظمة استبدادية مثل الصين والنظام السوري.
كما يناقش الكاتب كيف تروّج بعض الخطابات الغربية لسرديات تختزل الثورات العربية في مؤامرات خارجية، متجاهلة الأسباب الحقيقية لانفجار الغضب الشعبي، ومبرئة الأنظمة القمعية من مسؤولياتها. وفيما يلي نص التقرير:
في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، كان من بين الضيوف شخص مثير للاهتمام، بسبب تصريحاته التي لاقت صدى واسعًا. ففي تركيا، كثيرًا ما نمنح من يتحدثون بما يروق لنا رصيدًا عاليًا من القبول منذ اللحظة الأولى، ما يجعلنا نغض الطرف عن الجوانب الأخرى في شخصياتهم. وعلى سبيل المثال فإن تصريحات رئيس "شبكة حلول التنمية المستدامة" التابعة للأمم المتحدة، جيفري ساكس، بشأن الدور السلبي لإسرائيل والولايات المتحدة في منطقتنا، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي ثم على جميع المواقع الإلكترونية، وحظيت باهتمام واسع، في حين لم يلتفت أحد إلى أن ساكس كان قد وُجّهت له اتهامات بعلاقاته الوثيقة بالاستخبارات الروسية والصينية، كما لم تُذكر على الإطلاق مواقفه المنكِرة لوجود انتهاكات للصين في تركستان الشرقية، ودعمه غير المشروط لبكين في هذا الملف.
ولو كانت تصريحات ساكس قد اقتصرت على قوله إن "الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل مسؤولتان عن العديد من الحروب والأزمات في المنطقة، وأن هذه السياسات نُفذت عمدًا"، لكان بذلك يستحق الإشادة، لا لِجِدّة ما قال، بل لكونه أمريكيًا تجرأ على قول الحقيقة التي يعرفها الجميع. غير أن تصريحات ساكس، كما هو حال كثير من نظرائه، لم تؤد إلا إلى تعتيم كامل لكل ما حدث ويحدث في منطقتنا منذ سنوات.
صحيح أن لساكس أقوالًا أخرى صادقة أيضًا، كقوله: "لولا الدعم السياسي والعسكري والمالي الأمريكي، لما استطاعت إسرائيل الصمود يومًا واحدًا في الحرب، ولما تمكنت من ارتكاب إبادة جماعية في غزة". ولكنه بعد ذلك تجاوز إلى محاولة تصوير كل الحراك الثوري في سوريا على أنه مؤامرة أمريكية وإسرائيلية تهدف إلى إسقاط الأسد، وكأنه لم تكن هناك إرادة شعبية، ولا قمع، ولا دماء. بل إن ساكس، في منتدى أنطاليا الذي بات يتقدم بسرعة ويكتسب مكانة دولية متقدمة ضمن المحافل الدبلوماسية العالمية، لم يتردد في عرض هذه السردية بكل ثقة ونبرة متعالية أمام جمهور واسع استمع إليه بجدية، حيث قال: "الحرب السورية ليست سوى واحدة من ست حروب دفعت إسرائيل إلى إشعالها. والحروب الأخرى كانت في لبنان، والعراق، وليبيا، والصومال، والسودان. لدينا هذه القائمة منذ فترة. ففي عام 2011، تلقى ويسلي كلارك وثيقة من البنتاغون تتضمن هذه الخطة، والتي تهدف إلى إطلاق سبع حروب في غضون خمس سنوات. الحرب الوحيدة التي لم تندلع، رغم الحزن الشديد الذي أبداه نتنياهو، كانت ضد إيران. ولا تزال إسرائيل تسعى لتحريض العالم على خوضها حتى اليوم."
إنها من تلك التصريحات التي لا تدري من أين تبدأ في تفنيدها وتصويبها، وكأن قائلها إما يظن من أمامه ساذجًا، أو أنه هو نفسه ساذج حقًا. فهو يخبرنا بأن الولايات المتحدة، بطلب من إسرائيل، أشعلت الحرب في سوريا بهدف إسقاط بشار الأسد، فقامت بتنظيم وتدريب وتسليح جميع الجماعات المسلحة لهذا الغرض، لكنها ـ ويا للعجب ـ لم تتمكن طوال أربعة عشر عامًا من إسقاطه، رغم ما ارتكبه من مجازر راح ضحيتها مليون إنسان، وما سببه من تهجير قسري طال أكثر من 12 مليونًا من أبناء شعبه. إنها سردية تلغي وجود أي فاعل آخر، فلا للشعوب دور، ولا للفاعلين الإقليميين تأثير، بل تحمّل الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية الكاملة، وبالتالي يعيد ترميم دورهم كفاعلين رئيسيين حتى أثناء انتقادهم.
وفي هذا السرد، لا وجود لجرائم الأسد، ولا ذكر لظلمه ولا لطغيانه، لا لبطشه ولا لمجازره، وكأنها لم يكن. وكأن هذا النظام لم ينهك شعبه بالاعتقالات والتعذيب والقتل حتى لم يترك لهم خيارًا سوى الثورة،. هل نسي هؤلاء أن الثورة اندلعت بعد أن اعتُقل أطفال درعا، وقُتلوا تحت التعذيب، وأُهينت عائلاتهم في شرفهم؟ هل نسوا أن من خرجوا في المظاهرات الأولى كانوا آباء يطالبون بجثث أبنائهم، فقوبلوا بالرصاص الحي؟ أيعقل أن تكون هذه المشاهد الصادمة لم تحرّك الناس، وأنهم لم يثوروا إلا استجابة لنداء من أوباما!
هل كانت إسرائيل تنعم بالراحة لدرجة أنها أرادت الإطاحة بالدكتاتوريين؟
وهل كانت إسرائيل حقًا تسعى إلى تغيير الأنظمة في الدول التي اندلعت فيها الثورات؟ ولماذا؟ ما الذي كان يُزعجها في نظام مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، والإدارة في لبنان؟ أكان ينغّص عليها شعورها بالارتياح والاستقرار؟ أليست هذه الأنظمة نفسها قدّمت لها طاعة مطلقة وغير مشروطة وساهمت في تكريس وضع إقليمي يخدم مصالحها؟ الحقيقة أن الربيع العربي زعزع استقرار إسرائيل وهدّد مكاسبها، وليس العكس. لقد فتحت الثورات بابًا واسعًا لوصول الشعوب إلى مواقع السلطة والتأثير السياسي، وهذا ما جعل إسرائيل تشعر بقلق بالغ.
فهل كانت عمليات الانقلاب المضاد التي بدأت لاحقًا مجرد محاولة لاستعادة الوضع القديم؟ هل كانت إسرائيل تبحث عن مصر يحكمها مرسي حتى تقرر الإطاحة بمبارك؟ لو كان مرسي في السلطة، هل كان بإمكان إسرائيل أن تصول وتجول في المنطقة بهذه السهولة؟ ألم يتشبثوا بالأسد بشدة تحديدًا لتجنب تجربة أخرى مثل تجربة مرسي في سوريا؟
دعونا نتذكّر كيف جرى الأمر..
كل الثورات التي اندلعت كقطع الدومينو في تونس ومصر وليبيا واليمن كانت معادية لإسرائيل. ولهذا السبب بالذات، عندما جاء دور سوريا، تدخلت أيادٍ لتمنع نجاح الثورة هناك. صحيح أن الولايات المتحدة انضمت في البداية إلى "تحالف أصدقاء سوريا" بهدف إسقاط الأسد. لكن بعد وصولها إلى سوريا، تغير جدول أعمالها بالكامل فجأة، وصنعت عدوًا وهميًا اسمه "داعش" لتبدأ صراعًا معه.
ويحدثنا "ساكس" بأن الولايات المتحدة تسعى منذ اليوم الأول إلى إسقاط بشار الأسد، وقد تلقّف هذا الادعاء بعض من كانوا في تركيا ممن تضامنوا لسنوات مع طغيان الأسد، وكأنه كشف مبين أو فتح عظيم. إنهم لا يدركون مدى العجز الذي ينسبونه إلى الولايات المتحدة التي يعتبرونها رأس كل الشرور، إذ تُصوَّر على أنها عاجزة عن إسقاط نظام استبدادي رغم محاولاتها على مدى أربعة عشر عامًا. صحيح أن الولايات المتحدة لا تمتلك قوة مطلقة، لكنها لم تكن ضعيفة لدرجة أنها لم تستطع الإطاحة بالأسد. بل على العكس، لقد وقفت الولايات المتحدة صراحةً في وجه قوى الشعب التي كادت أن تطيح بالأسد. لقد حمته وأبقته في السلطة. لماذا؟ لأن الأسد كان "الدكتاتور المفضل" لإسرائيل.
لم تكن إسرائيل يومًا على خلاف مع آل الأسد، لا الأب ولا الابن. كلاهما كانا "أمينين وفيين" على مصالحها. وكان الأسد يرى أن حكمه في سوريا مرهون بثمن "بيعه للجولان"، الذي لم يُرد استعادته يومًا. ولهذا، عندما سقط النظام أصيبت إسرائيل بالذعر، وبدأت تتحرك كالثور الهائج في كل اتجاه. فسوريا كانت في الأساس دولة تحت الاحتلال الإسرائيلي غير المباشر، وسقوط الأسد بفعل الثورة بدا لإسرائيل كأنه فقدان لأرض من أملاكها.
كان بإمكان الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، التي أطاحت بالقذافي في ليبيا في غضون أيام قليلة، أن تحقق هذا الأداء بسهولة في سوريا. بل إنهم انتظروا "بصبر" انتهاء علاقات تركيا المستمرة مع سوريا في تلك الأيام. وظننا أنهم سيأتون للإطاحة بالأسد. لقد أتوا، وكان بإمكانهم فعل ذلك لو أرادوا. كان بجانبهم كل الشعب السوري الذي ضاق ذرعًا بخمسين عامًا من الاستبداد. وكان المجتمع الدولي يملك الشرعية الكافية بسبب جرائم الحرب.
ولكن فجأة، سقط الأسد من جدول أعمالهم. فهل كانوا يخشون إيران؟ أم روسيا؟ أم الأسد نفسه؟ من يمكنه تصديق ذلك؟ بل إن روسيا، في ذلك الوقت لم تكن قد قدمت دعمها الكامل للأسد بعد. ولم يكن قد أُبرم أي تحالف صريح بينها وبين النظام. لم يكنهناك سوى إيران والأسد. وكانت كل أشكال الدعم الشعبي للإطاحة بهما موجودة، فلماذا لم يفعلوا ذلك؟ لأنهم رأوا في تلك اللحظة بالذات أنهم لا يملكون بديلًا عن الأسد أو ما بعد الأسد يحقق مصالحهم. ومنذ ذلك الحين، ظلّ هاجس "ما بعد الأسد" كابوسًا لإسرائيل. بل يمكن القول إن أكثر ما كانت تخشاه إسرائيل قد تحقق، ولو بعد أربعة عشر عامًا.
أما أن نرى "ساكس" يُروج لروايته على منبر منتدى أطاليا الدبلوماسي، وأن يُنصت له الحضور بكل اهتمام، فتلك مسألة أخرى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!