
ترك برس
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه سيجتمع قريبا مع الزعيم الروحي لنحو 300 مليون مسيحي من طائفة الأرثوذكس حول العالم، لمناقشة استئناف فتح مدرسة لاهوت رئيسية قريبة من إسطنبول والمغلقة منذ ما يربو على 50 عاما.
وأثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه القضية خلال محادثات مع أردوغان في البيت الأبيض، الخميس، وقال إن كنيسة الروم الأرثوذكس تطرقت لهذه المسألة عندما زار برثلماوس، المقيم في إسطنبول، الرئيس الأمريكي قبل أسبوع.
ما قصة المدرسة؟
تُعد مدرسة اللاهوت المغلقة منذ أكثر من نصف قرن إرثًا ثمينًا للعالم الأرثوذكسي، وحافلة بالنقاشات متعددة الأبعاد على الصعيدين السياسي والثقافي والدبلوماسي في تركيا، وقد أعادت تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان طرح قضية المدرسة على طاولة النقاش مجددًا.
تأسست المؤسسة التاريخية، التابعة للبطريركية اليونانية الأرثوذكسية في الفاتح (Fener)، بهدف إعداد رجال الدين، لكنها تجاوزت كونها مجرد مركز للتعليم الديني لتصبح رمزًا يعكس موقع تركيا في الساحة الدبلوماسية الدولية. لفهم القصة المعقدة لمدرسة هايكلي اللاهوتية (Halki Theological School)، يجب أخذ عوامل مثل الأيديولوجيا الرسمية والقوانين والسياسة الخارجية بعين الاعتبار.
تعود جذور المدرسة في جزيرة "هايبالي أدا" إلى تاريخ الجزيرة نفسه، حيث يقع "دير آيا تريادا" التاريخي، الذي تشير بعض المصادر إلى أن أصوله تعود إلى العصر البيزنطي، حاملاً إرثًا روحانيًا عميقًا. بعد فتح إسطنبول، استمر الدير في أداء دوره كمركز روحي مهم للجالية اليونانية الأرثوذكسية، ومع مرور الوقت أصبح الموقع الطبيعي لإنشاء مركز تعليم رجال الدين.
سُجل التاريخ الرسمي لتأسيس المدرسة في 1 أكتوبر 1844، تحت إشراف البطريرك اليوناني الأرثوذكسي الرابع "جيرمانوس" (IV. Germanos). عند تأسيسها، حملت اسم "المدرسة العليا للاهوت الأرثوذكسي"، لكنها أصبحت مع الوقت تعرف شعبيًا باسم "مدرسة رجال الدين" أو "Ruhban Okulu".
في تلك الفترة، كانت البنية الاجتماعية المتعددة الثقافات للدولة العثمانية تتيح للأقليات تأسيس مؤسسات دينية وتعليمية ضمن قيود الدولة. كانت المدرسة مصممة لتشمل برنامجًا ثانويًا من أربع سنوات يليها التعليم اللاهوتي، بهدف تعزيز الوحدة اللاهوتية داخل العالم الأرثوذكسي وتوحيد المعايير التعليمية.
تأثرت البنية المعمارية للمدرسة بالأحداث التاريخية، ولا سيما زلزال إسطنبول الكبير عام 1894، ما استدعى إعادة البناء بدعم مالي كبير من أبرز الشخصيات في المجتمع اليوناني، مع الحفاظ على الطابع المعماري العثماني–اليوناني السائد آنذاك.
تغير وضع المدرسة خلال فترة الجمهورية وإغلاقها عام 1971
شهدت المدرسة تغييرات كبيرة بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، وأصبح اسمها أكثر شيوعًا "Heybeliada Ruhban Okulu". على الرغم من استمرار إدارتها تحت البطريركية، عززت الجمهورية الجديدة سياسات التمركز والرقابة على التعليم العالي.
ظل التعليم مستمرًا بموجب تراخيص فردية وفقًا لقانون المدارس الخاصة، ولم تعتمد المدرسة على اعتراف عام بعد اتفاقية لوزان، بل عملت وفق النظام المعمول به للمدارس الخاصة والأقليات. وبحسب قانون الأوقاف لعام 1935، أدرجت المدرسة ضمن الأوقاف الملحقة وحصلت على شخصية قانونية رسمية في 12 مارس 1936. وعلى الرغم من برنامجها الذي تضمن ثلاث سنوات ثانوية وأربع سنوات دراسة لاهوتية، ظلت تُعامل كمدرسة متوسطة حتى عام 1950.
خضعت المدرسة مع الوقت لرقابة الدولة وتنظيمات متغيرة بشأن المنهج الدراسي وشروط قبول الطلاب والطاقم التدريسي، بما في ذلك منع قبول الطلاب الأجانب عام 1964 لأسباب أمنية، وتأثرها بالقوانين الخاصة بالتعليم الخاص الصادرة لاحقًا مثل القانون رقم 625 عام 1965.
قرار المحكمة الدستورية وتأثيره على الإغلاق
كان أهم قرار قانوني يؤثر على مستقبل المدرسة قرار المحكمة الدستورية في 12 يناير 1971، الذي قضى ببطلان بعض مواد قانون التعليم الخاص المتعلقة بإنشاء مؤسسات التعليم العالي الخاصة، ما استلزم ربط جميع هذه المؤسسات بالجامعات الحكومية أو إغلاقها.
عرضت الدولة على البطريركية خيارين: ربط المدرسة بجامعة حكومية أو إغلاقها. رفضت البطريركية الانضمام للرقابة الحكومية، متمسكة بالوضع المستقل للمدرسة، ما أدى إلى إغلاقها رسميًا عام 1971. بعد الإغلاق، استمر استخدام مجمع المباني كمكان للمؤتمرات والندوات والزيارات، بينما بقي القرار محل جدل بين من يرى أنه جاء من البطريركية نفسها، ومن يعتبر أن العوامل السياسية والالتزامات الدولية مثل اتفاقية لوزان لعبت دورًا فيه.
التحديات الحالية لإعادة فتح المدرسة
اليوم، يشكل رفض البطريركية إخضاع المدرسة لرقابة الدولة أبرز العقبات أمام إعادة فتحها، إذ يلزم القانون التركي المؤسسات الجامعية بالارتباط بمجلس التعليم العالي (YÖK). تصر البطريركية على استمرار استقلال المدرسة كمؤسسة تعليمية دولية، ما يجعل إعادة فتحها قضية قانونية وسياسية معقدة.
وضع المدرسة بعد 1971 ومحاولات إعادة الفتح
خضع مجمع المباني لعدة أعمال صيانة وترميم بعد الإغلاق، مع طرح مشاريع لإعادة التأهيل. منذ التسعينيات، ظلت مسألة إعادة فتح المدرسة على أجندة النقاش في تركيا، مع بقاء قضية المدرسة حية في الإعلام والمجتمع.
خلال هذه الفترة، بذلت البطريركية الأرثوذكسية القسطنطينية عدة محاولات لإعادة افتتاح المدرسة، مؤكدة ثلاثة شروط رئيسية:
الانفتاح الدولي للمدرسة: يجب أن تكون مفتوحة أمام الطلاب من جميع أنحاء العالم، لتصبح مركزًا لاهوتيًا دوليًا قادرًا على إعداد كادر روحاني عالمي.
استقلالية الإدارة عن الدولة: لضمان استمرار التعليم الديني بعيدًا عن أي ضغوط سياسية أو بيروقراطية.
الرقابة على المنهج والطاقم التدريسي: لضمان الحفاظ على خطها العقائدي والروحاني.
إلا أن أنقرة لم تتنازل عن صلاحيات الرقابة على مؤسسات التعليم العالي، ما خلق تعارضًا مستمرًا مع شروط البطريركية. ومع ذلك، أعادت تصريحات وزارية خلال 2024–2025، بما في ذلك زيارة وزير التعليم للمدرسة، بعض الأمل بشأن إمكانية تحسين وضع المدرسة وإعادة النظر في فتحها مستقبلًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!