مولاي علي الأمغاري - خاص ترك برس

بعد نأي تركيا بنفسها عن الحرب الدائرة بسوريا لأكثر من أربع سنوات، ومع تتبع دقيق لما يجري بالمنطقة، تأكد القادة الأتراك أن مخططًا يستهدف أمن تركيا القومي ووحدتها الجغرافية، وراءه أطراف هدفها تفكيك المفكك، واللعب بورقة الأقليات من أجل تحقيق مصالحها بالمنطقة أو تحقيق حلم الزعامة الإقليمية أو الانتقام من كل من ساعد الثورة السورية اليتيمة.

فداعش لم تكن خطرا على الأمن القومي التركي قبل انسحاب القوات العراقية من مدينة الموصل في حزيران/ يونيو 2014، وقوات النظام السوري من مدينة عين العرب كوباني في تموز/ يوليو من العام نفسه، هذين الانسحابين فتحا الشمال العراقي والسوري لمنظمة داعش الإرهابية وبالتالي اقترابها من الحدود التركية، هذه الخطوة الأولى من مخطط زعزعة الأمن القومي التركي، أم الخطوة الثانية فهي الدعم اللامحدود من القوى الغربية لقوات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، - الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني - بقيادة صالح مسلم، والغاية من هذا الدعم  إقامة كيان كردي إما بحكم ذاتي أو مستقل عن سوريا الجديدة، فمنذ قيام الثورة السورية اليتيمة هيأ نظام بشار الظروف لتحقيق هذا المخطط، باجتناب أي صدام مع قوات حماية الشعب في مواقع سيطرته المفترضة، وتهجير العرب والتركمان من المناطق التي دخلتها القوات الكردية، كما قام النظام بإعادة تشكيل مؤسساته في الجزيرة لكي تمهد لإقامة دويلة كردية بالشمال السوري، ونشط صالح مسلم وحزبه في إنشاء المدارس التي تدرس باللغة الكردية والمراكز الثقافية والجمعيات التي تخدم مشروع حزب PYD، بكل منطقة وقعت تحت سيطرتهم بدون ترخيص من النظام كما أعترف هو، وهذه السياسة سمّاها صالح آنذاك "بخطوات الإدارة الذاتية الديمقراطية".

حيث قال صراحة في حوار مع إحدى الصحف السورية في 20 تشرين الأول/ أكتوبر2011، "نحن نستفيد من الاضطرابات الواقعة في سوريا، والتي قدمت لنا فرصة تاريخية، لدينا الحق ونريد الوصول إليه، لا نقتل ولا نحارب أحدا، نحن فقط نستعد لمرحلة ما بعد النظام...، ولا يهمنا في المقابل قضية الحكم الذاتي فهي لا تقدم لنا كأكراد شيئا... ما يهمنا هو أن ندافع عن وجودنا وهو ما لا يقبله النظام الحالي ولن يقبله النظام القادم، سياستنا تختلف بشكل جليّ عن سياسات أولئك الساعين إلى السلطة... العملاء هم كل من في المجلس الوطني السوري، وعقدوا اتفاقا مع تركيا، نعتقد أنهم لا يعرفون ما يجري من حولهم، من لا يتخذ موقف من السياسة التركية نعتبره عميل لها".

هذا الكلام لا يحتاج إلى شرح فعند صالح وحزبه الضوء الأخضر - ولا يهم ممن -، لتشكيل منطقة كردية شمال سوريا ستكون نواة لكيان كردي لا تصل له يد حكام سوريا الجدد، فقيام الثورة السورية عام 2011 هي فرصة تاريخية للأكراد لتحقيق حلم طال انتظاره.

هذا بالطبع شجع حزب العمال الكردستاني بجبال قنديل على التمرد على مطالب زعيمه عبد الله أوجلان، كما دفع حزب الشعوب الديمقراطي - الغطاء السياسي لمنظمة PKK الإرهابية - إلى فتح النار على الحكومة التركية و حزب العدالة والتنمية بمناسبة وبدون مناسبة تمهيدا لخرق الهدنة والتنصل من عملية السلام.

فقد استعمل دميرطاش وحزبه مشروع محادثات السلام وسيلة لكسب الوقت لأجل سيطرة أكراد سوريا على طول الشريط الحدودي مع تركيا، واستغلوا فزاعة تنظيم داعش للاستفادة من دعم التحالف الدولي ضد داعش وكسب الشرعية لعملياتهم والتي ظاهرها محاربة داعش وباطنها التمهيد لإنشاء كيان كردي بطرد العرب والتركمان من مناطقهم (الجزيرة - عين العرب - تل أبيض - عفرين)، وطبعا لا يخفى على الساسة الأتراك ما وقع، فرفضوا هذه التطورات والتي تمس بأمنهم القومي، لأن هذا كله جاء من الدعم الأمريكي لـ(PYD) وقواته، ومع اقتناع إدارة أوباما أن هزيمة تنظيم الدولة غير ممكنة بدون دعم تركي، خصوصا بعد فشل الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي في منع سقوط الرمادي بيد داعش في أيارر/ مايو الماضي، كان التفاهم الأمريكي – التركي الذي تحدثت عنه صحيفة واشنطن بوست، فتركيا قامت بمقايضة دخولها في التحالف الدولي ضد داعش مع فتح قواعدها العسكرية في الجنوب لطائرات التحالف، بتنفيذ مطلبها بإقامة منطقة آمنة من جرابلس إلى عفرين، خالية من داعش وقوات حماية الشعب مع ضرب معاقل تنظم (PKK) الإرهابي.

الحكومة التركية بهذا حققت هدفين مهمين: الأول سحب الدعم الأمريكي والغربي لأكراد سوريا، بقيام تركيا بدورهم في محاربة تنظيم داعش على حدودها، والثاني إفشال مخطط حزب العمال الكردستاني وغطائه السياسي حزب الشعوب الديمقراطي في محاولتهم استغلال مارأوه فرصة تاريخية لإقامة كيان كردي مستقل.    

فتركيا ترى أن الأكراد الانفصاليين والذين يفضلون خيار السلاح بدل العملية السياسية سواء كانوا في داخل تركيا أو على حدودها هم الخطر الأكبر على أمنها القومي وليس داعش الذي هو تنظيم يعبث به الغرب لأجل مصالحه في المنطقة، فهو زائل لا محالة، وإن بلغ في تطرفه ما بلغ.

 أما قادة حزب العدالة والتنمية فهم مصرون على أن عملية السلام لم تدفن، هذا ما عبر عنه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في مقاله: "لن يثنينا أي شيء عن هزيمة الإرهاب": "وكما علّمنا تاريخنا، سنظلّ  نبحث دائمًا عن وسائل سلميّة لحل الصراعات التي قد تنشب. ولكن عندما نتعرض للتهديد، سنتحرك دون أدنى تحفّظ، بكلّ ما أمكننا حتّى يُهزم عدُوّنا".

وأكد ذلك في خطابه الأخير "على طريق تركيا الجديدة" عن وكالة الأناضول حيث قال: "إن العمليات الإرهابية التي شهدتها تركيا في الأيام الأخيرة، والتي يقف وراءها تنظيم داعش ومنظمة بي كي كي الإرهابيتين، تستهدف أرواح البشر وكرامتهم ومستقبل تركيا، كما تهاجم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهو ما استدعى إطلاق تركيا عملية عسكرية، أطلقنا عليها عملية "السلم والديمقراطية"، لأنها تواجه الإرهاب الذي يستهدف السلم والديمقراطية في تركيا... وستستمر  العملية العسكرية حتى لا يجرؤ أحد على تهديد المواطنين الأتراك، ووحدة تركيا وحريتها".

إذا تعقّل الأكراد ووضعوا في بالهم "قانون إنشتاين في تكرار المحاولات بالطريقة نفسها"، سيدركون أن ما يقع في سوريا ليس فرصة تاريخية، وإنما فوضى سيكون فيها الأكراد جسرًا تقطعه القوى الغربية بعد أداء وظيفته، فعلى الأكراد ألا يُلدغوا من الجحر مرات.

 

عن الكاتب

مولاي علي الأمغاري

باحث في قضايا العالم العربي والإسلامي ومتخصص في الحركات الإسلامية وقضايا الإرهاب، ومهتم بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس