جلال سلمي - خاص ترك برس

مُدبر، مُخطط، مُنظم، مُنسق، مُرتب، مُعد… إلخ، تتعدد المعاني والمرادفات ولكن تبقى مهمة الشخص الذي يتمتع أو يحمل هذه الصفات واحدة وهي؛ إعداد خطط وترتيبات وتكتيكات قصيرة الأمد وطويلة الأمد، بغية الوصول إلى الهدف أو المُراد المنشود.

انطلاقًا من قاعدة أهمية وجود مُخطط أو مُدبر تكتيكي واستراتيجي لإعداد خطط وترتيبات للوصول إلى الهدف المرنو إليه، كان لا بُد من وجود مُخطط، أو ما يطلق عليه في تعبيرنا الحديث مُهندس، من أجل إعداد خطط استراتيجية لتركيا التي يسعى قادتها لإيصالها لمجموعة الدول العشرة الأكثر تطورًا حول العالم بحلول عام 2023.

قبل حلول عام 2009، أطال قادة حزب العدالة والتنمية بحثهم العميق عن شخصية ذات مؤهلات وأفكار علمية وتجريبية ترسم لهم خارطة طريقهم الاستراتيجية، ولكن مع قدوم ربيع 2009، الربيع الذي يجلب بقدومه الخيرات والأجواء اللطيفة والبديعة، اكتشف عبد الله غل ورجب طيب أردوغان بأن الذي يبحثون عنه هو أحمد داود أوغلو، وتُضاف صفة الوحيد له لأنه فعلًا هو الشخص الوحيد الذي رسم خطط إرجاع عظمة الدولة العثمانية للجمهورية التركية من خلال كتبه ونظرياته وأفكاره.

في ظل سطوع نجومية داود أوغلو كمهندس للعقلية التركية؛ يكون السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه كيف نشأ أحمد داود أوغلو؟ وما هي العوامل التي أسهمت في جعله يفكر استراتيجيًا بهذا الحجم؟

بعد ميلاد أحمد داود أوغلو، بتاريخ 26 شباط/ فبراير 1959، نشأ في ظل عائلة تركمانية تستذكر وتستحضر، في جميع قصصها وحكاياتها وأحاديثها، المجد العثماني التليد، وتذكر، بشكل مستمر، حجم الاشتياق المُلهب للدولة العثمانية، ذلك الاشتياق الموجع الذي يسيطر عليهم منذ انهيار وتفتت الدولة العثمانية العظمى وبالتالي تفتفت وتشرذم المسلمون حول العالم. اشتياق عائلة أحمد داود أوغلو للدولة العثمانية وحكمها كان نابع من معايشتهم وأجدادهم للحكم العثماني ومن عيشهم على ترانيم قصص أجدادهم المُشوقة التي كانت تتناول تاريخ الدولة العثمانية العظمى في فترة من الفترات.

ويبدو بأن لهذه القصص والحكايا، التي تلقنها أحمد خلال فترة طفولته، أثرها الواضح على دفعه لإعداد خطط متنوعة، يهدف من خلالها لإيصال تركيا إلى الدرجات العظمى التي كانت مُتوجة للدولة العثمانية في ريعان عظمتها.

إضافة إلى ذلك يرى الباحث التركي شريف كاراكورت، في دراسة أكاديمية له بعنوان "المُعلم أحمد الرسام الاستراتيجي لصورة تركيا الحديثة" نُشرت بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 على الصفحة الرسمية لموقع الأخبار التركية "خبر سيرت"، أن "نباغة أحمد داود أوغلو ظهرت وهو ابن المرحلة الخامسة الابتدائية، حيث التقى بصديق والده محمد أمين ألبكان وتبادلا الحديث فانبهر السيد محمد أمين من حديث أحمد الحِصيف، على الرغم من صغر سنه، وبعد اقتراح أحمد على محمد أمين الكتابة في الجريدة التي يرأسها، كانت الجريدة باسم "بيزيم أناضول"، ظن محمد أمين بأنه يمازحه فقبل منه ذلك".

ويضيف كاراكورت قائلا: "بعد مرور أسبوع ذهب أحمد بورقتين وطرق باب السيد محمد أمين، ففتح السيد محمد أمين الباب ورحب بأحمد ودخلا البيت، بعد جلوس أحمد لبرهة، قام بإعطاء الورقتين للسيد محمد أمين، زاد انبهار السيد محمد أمين بأحمد بعد اتخاذ الأخير لموضوع الكتابة بجدية، فقبل السيد محمد أمين كتابته وحفزه على المزيد من الكتابة، وبذلك يكون مشوار أحمد داود أوغلو بكتابة التحليلات قد بدأ، إذ بدأ بأول كتابة له وهو في سن الحادية عشر وما زال إلى يومنا هذا مُستمرًا في كتابته وتحليلاته، اكتشاف صديق والده له وتحفيزه عليه لم يكن بالنقطة البسيطة بل كان لها واقع شديد الأهمية، حيث وُلد من خلالها مُدبر العقلية الاستراتيجية الحديثة".

ويشير الكاتب التركي عبدالله سلفي، المُعقب أيضًا على قصة أحمد داود أوغلو مع صديق والده السيد محمد الأمين، إلى أن: "أحمد داود أوغلو، الذي أصبح متمرسًا على الكتابة والتحليل بعد قبول السيد محمد أمين بنشر كتابته باسمه لكن دون صورة لصغر سنه، كتب موضوع تعبير، وهو في الدرجة السادسة الابتدائية أي وهو في سن الثانية عشر، فأُعجب معلمه جدا ً ببراعته الكتابية والتعبيرية، وكان موضوع التعبير "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟" فبينما عبر جميع الطلاب عن أحلامهم وطموحتهم، كتب أحمد داود أوغلو: "ليس المهم ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر، المهم أن يعمل كلٌ من ثغره على تنشئة أفراد نافعين للوطن ومرتبطين بقيمهم الاجتماعية والثقافية وتاريخهم القديم"، وأكمل موضوع التعبير على هذا الأساس، فأعجب معلمه به، إلى درجة الانبهار والانذهال، بسبب تمكن طفل بهذا السن من التعبير عن أفكاره ورؤيته بهذه البراعة الفلسفية، ومن باب حرص معلمه على تحفيزه وتشجيعه قام بشراء هدية قيمة له وأهداه إياها على انفراد قائلًا له: "تركيا تحتاج إلى عقول نيرة مثلك فلا تحرمها من أفكارك" ويبدو بأن أحمد داود أوغلو أخذ هذه  المقولة كمهمة رسمية يجب  عليه إتمامه وهاهو اليوم يُعتبر أحد أكبر العقول الاستراتيجية التي يُسار على نهجها في جل القضايا الخاصة بتركيا".

وتنقل السيرة الذاتية لحياته بأنه انتقل إلى إسطنبول، في تموز/ يوليو 1973، لإتمام دراسته في المرحلة الثانوية، وبعد التخرج التحق بجامعة بوغاز إيتشي التي تُعد أحد أهم الجامعات التركية وأعلاها من حيث المستوى التعليمي، وما يدل على تأثره بقصص عائلته المُستذكرة للتاريخ العثماني الأصيل وتأثره بتحفيز صديق والده السيد محمد أمين له وأيضًا تأثره بوصية معلم؛ هو اختياره قسم العلاقات الدولية والعلوم السياسية ودراسته في نفس القسم إلى أن أنهى درجة الدراسات العليا "الدكتوراة"". قصص عائلية وتحفيز بسيط جعل من طفل رجل أكاديمي وسياسي يُذكر ويُؤخذ بعلومه وأفكاره، ليس فقط في تركيا، بل في جميع أنحاء العالم.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!