محمد إلهامي - تركيا بوست

تزورنا من جديد ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير)، وهي الذكرى التي ابتكر الشباب المسلم على مواقع التواصل الاجتماعي فكرة إحيائها وتقليدها، وأسفر هذا عن ثمار عملية ومؤتمرات وندوات عُقِدت في القاهرة وعمّان وإسطنبول وغيرها، وما تزال أفكار الشباب وهممهم تجود بالمزيد.

لقد كان سقوط الأندلس واحدة من المآسي العظمى في التاريخ الإنساني، لما رافقها من عمليات الطرد والإبادة ومحاكم التفتيش الشنيعة التي نشرت الرعب والفزع وابتكرت فنونا من وسائل التعذيب وتحطيم الجسد والنفس الإنسانية، وهي وحدها عار ضخم تحمله “الحضارة” الغربية إلى جانب سوءاتها العظمى: إبادة السكان الأصليين للعالم الجديد والعبودية في إفريقيا وإبادة المدنيين في الحروب العالمية أو موجات الاحتلال.

ولئن كان الكثير من ملفات الموريسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على التنصر) كانت معروفة منذ زمن، فإن المجهود العثماني في استنقاذ المسلمين لم يُعرف حتى في أوساط المثقفين إلا في بداية التسعينات، ويعود السبب الرئيسي في هذا إلى المعوقات التي وُضِعت أمام الباحثين في الأرشيف العثماني، فلما فتح الأرشيف ظهرت كثير من الدراسات التي كشفت عن صفحة مجيدة من تاريخ الدولة العثمانية.

لقد سقطت الأندلس بعد وفاة محمد الفاتح باثنتي عشرة سنة، أي أنها سقطت والدولة العثمانية في ذروة قوتها، إلا أن المساحة الجغرافية الهائلة بين القسطنطينية وغرناطة غلَّت يد الدولة العثمانية عن تقديم عون حاسم لمسلمي غرناطة؛ كانت الدولة العثمانية الشمس الوحيدة الباقية في عالم الإسلام يومئذ، لكنها شمس بعيدة عن الأندلسيين، فما يكاد شعاعها يصلهم إلا ويكون ضعيفا.

كان العثمانيون يتقدّمون في شرق أوروبا إلا أن الصفويين كانوا يطعنونهم من الخلف ويجبرونهم على سحب جيوشهم وإيقاف فتوحهم في أوروبا ليحاربوا في المشرق، وكان المماليك في مصر والشام على ضعفهم عائق كبير أمام استفادة العثمانيين من موارد مصر والشام البشرية والمالية والجغرافية، ولم يكن بالإمكان اختراق كل أوروبا ومحاربة جميع أممها حتى الوصول إلى الأندلس، ولذلك كانت المساعدة العثمانية للأندلسيين بثلاث طرق:

1. بحرية من خلال دعم المجاهدين في البحر، وإرسال الأسطول لإنقاذ الأندلسيين أو لدعمهم ماليا وعسكريا.

2. سياسية من خلال بعض الإجراءات التي خفّفت بعض ما يلقاه الأندلسيون من العذاب، كرسائل التهديد، والإنذار بإحراق الأسرى من النصارى (وهو ما أدى إلى قرار الطرد بدلا من قرار الإبادة للموريسكيين) والعلاقات مع فرنسا وهولندا إذ كانتا مناطق لجوء وعبور للأندلسيين من الجحيم الإسباني.

3. وإنسانية من خلال استقبالهم في أراضيها.

واستطاعت الدولة العثمانية بعد القضاء على خطر الصفويين وإسقاط دولة المماليك أن تدافع عن الحدود الإسلامية أمام الأساطيل البرتغالية، فكانت تحارب في الخليج العربي وخليج عدن والبحر الأحمر والبحر المتوسط، فحفظ الله بها تلك الديار عربية حتى هذه اللحظة ولو لم يكن العثمانيون لكنا نكتب الآن تاريخا آخر ما أشبهه بتاريخ أمريكا اللاتينية!

إلا أن الأندلسيين، بطبيعة الحال، لم يكونوا يقدِّرون كل هذا، مثلما ينظر المسلمون الآن إلى تركيا ويعلّقون عليها الآمال الكِبار رغم أنها لم تعد الدولة العثمانية التي هي قوة عالمية في وقتها، بل كان الأندلسيون ينتظرون أن ينقذهم العثمانيون مما هم فيه، وكانوا يتوقعون أن تصل جيوش السلطان في أية لحظة، وقد أعطاهم هذا الأمل دفعة جديدة في استمرار مقاومتهم التي حكمت عليها عوامل القوة والجغرافيا والسياسة بالهزيمة.

لقد سجّلت محاكم التفتيش عددا من الروايات المثيرة للأسى عن العثمانيين في خيال الأندلسيين، ونحن نعتمد هنا بالأساس على كتاب المستشرق الإسباني لوي كاردياك “الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية” وهو دراسة من واقع سجلات محاكم التفتيش، وهو كتاب مثير للبكاء مهيج للقلوب يرى المرء بين صفحاته قصة مأساة إنسانية بالغة القسوة.

وقد عُثِر في المخطوطات الموريسكية على ذِكْر وصية من محمد العثماني (محمد الفاتح) لأبنائه أن يستمروا في فتح روما ورودس والبندقية وإيطاليا ولمباردي و”كل إسبانيا”، واهتم الموريسكيون بهذه الوصية لأنها تمثل بالنسبة لهم وعد التحرير الذي ينتظر التنفيذ من خلفاء محمد الفاتح. وقد كانت ثورة البشرات الأندلسية تعتمد نفسيا وروحيا على انتظار الدعم من الأتراك الذين سيأتون لا محالة، فإما أدركوهم وهم يثورون فانتصروا بهم، وإما كانت هذه الثورة هي الممهدة لانتصار الأتراك حين قدومهم.

كان الأندلسيون يعتبرون أن ما ينزل بهم هو فتن وملاحم آخر الزمان، وحيث أنه قد فتحت القسطنطينية قبل نصف قرن وواصل الأتراك تقدمهم في شرق أوروبا، فلا ريب أن النبوءة النبوية ستكتمل بفتح روما التي سيصل إليها العثمانيون ثم يستكملون طريقهم نحو الأندلس، وهنا يتحقق انتصار الإسلام الذي وعدت به نصوص القرآن والسنة.

وأحيانا كانوا يتوقعون أن المهدي المذكور هو سلطان العثمانيين، أو هو جندي عربي في واحد من جيوشهم، أو هو سلطان سيظهر في العرب، أو عربي سيظهر في الأندلس من أبنائهم، وحدّدوا له صفة كأن يولد من رجل أصم وامرأة زرقاء العينيين وله أخ يولد مختونا. وسجَّلت وثائق محاكم التفتيش قصة رجل يسمى الكسندر كاستالانو، وهذا اسمه النصراني الذي أجبر عليه لكنه أندلسي مسلم، كان قد هرب إلى الدولة العثمانية (1560م) ثم عاد بعد عشرين سنة من هناك (1582م) وقد كلّفه السلطان العثماني بالتأكّد من “بعض العلامات” في قشتالة وبلنسية، والتحقق مما إذا كانت هذه العلامات توافق ما نصّت عليه نبوءة شائعة في تركيا تتحدث عن زمان إعادة افتتاح الأندلس. وقال إلكسندر بأن علامة من هذه العلامات قد تحققت بالفعل، فلقد رأى في بلنسية شابا صغيرا تنطبق عليه العلامات المذكورة: ضخم الجثة، في كل يد من يديه ستة أصابع، ذو مخالب. ومن ثَمَّ فإنه سيكون خلال ثلاثين عاما قائدا للأندلسيين كما تنص النبوءة. وهكذا اختلطت النصوص بالرؤى والنبوءات والخرافات في ذلك الوقت، إذ كانت أحوال الذل والاستضعاف والسرية الشديدة دافعة لانتشار التفكير بالتمنّي.

وقد حوكم الكثير من الأندلسيين على مشاعرهم تجاه العثمانيين وحلفائهم الفرنسيين، واعتبر ابتهاجهم لانتصار العثمانيين أو العرب على الإسبان أو حزنهم في حال الهزيمة مؤشر على إخلاصهم لدينهم السابق، وكانت الهزيمة الكبرى للأسطول الإسباني في معركة باب الواد في الجزائر مما أقيمت له الأفراح في مناطق الموريسكيين في الأندلس، ومما أُخِذ به كثير من الناس نحو المحاكم، وكانت متابعة الأخبار تمتد حتى تصل إلى القرى الموريسكية النائية وصار الأندلسيون يحفظون أسماء القلاع التي استولى عليها العثمانيون ولو كانت صغيرة وغير معروفة.

وأحيانا لم يكن الأندلسي يملك نفسه، فقد خطَّط جوان بوتستا للهرب من مدريد إلى فرنسا، التي كانت على علاقة طيبة بالعثمانيين واستثمر العثمانيون هذه العلاقة في إنقاذ الأندلسيين، حيث ستسقط عنه هذه العبودية إذا ما وصل فرنسا، وهناك سينتظر السفنية العثمانية التي تحمل الأندلسيين إلى بلادهم، لكنه من فرط غيظه أراد أن يغيظ الإسبان، فدخل إلى كنيسة وأعطى ظهره للقربان “المقدس” (في إهانة لطقوسهم) ثم انطلق هاربا، لكنه قُبض عليه وسيق إلى محاكم التفتيش.

وقد تسرّبت الأحلام التي تخص العثمانيين إلى المسيحيين كذلك، فلقد كان لديهم من المنجمين وأصحاب الأحلام والمتنبئين من يفسرون ظواهر النجوم أو الأحلام أو النصوص التوراتية على أن هذا هو زمان نهاية الإسلام من العالم، وأنه ليس إلا قليلا وستنتصر جيوش شارلكان على العرب ثم تحطم الجيوش العثمانية وإبادتها.

تقول الحقيقة التاريخية بأنه لم تحقق أحلام هؤلاء ولا أولئك، لم ينتصر الأندلسيون ولم يتحطم العثمانيون تحت جيوش شارلكان.. وفي هذا عبرة جليلة!

عن الكاتب

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس