كلير سادار - مجلة مفتاح - ترجمة وتحرير ترك برس 

ميز انقلاب 1980 بداية حقبة جديدة في القانون والسياسة والاقتصاد التركي، حقبة يبدو الآن فقط أنها تقترب من نهايتها. الدستور التركي الحالي صاغه المجلس العسكري الذي حكم البلاد بعد الانقلاب. ترك الانقلاب أثرا لا يمحى في حياة جيل من الأتراك الذين بلغوا سن الرشد في أعقاب وقوع الانقلاب. والآن وهم في الثلاثينيات والأربعينيات من عمرهم، نشأ أطفال الانقلاب في أجواء كافأت من بقوا صامتين تجاه المسائل السياسية، وظلوا مطيعين لعقيدة الدولة القومية.

تأصيل الانقلاب

شهد عقد السبعينيات أعمال عنف لا مثيل لها في تركيا. شُكلت سلسلة من الحكومات الائتلافية غير المستقرة من الأحزاب السياسية العلمانية والقومية والإسلامية، وأدى ذلك إلى توترات سياسية وصلت إلى الشوارع. خلال هذه الفترة أسفرت أعمال العنف بين اليساريين والقوميين المتطرفين عن 5000 قتيل ، أو قرابة عشرة قتلى في اليوم في جميع أنحاء البلاد. وقد دفع العنف وعدم الاستقرار القيادة العسكرية في تركيا، التي كانت من الناحية الرسمية تقريبا من يسير أعمال الجمهورية التركية منذ تأسيسها، إلى التدخل وإطلاق آخر انقلاب كامل في تركيا.

أراد الجنرالات الأتراك الذين خططوا ونفذوا الانقلاب في الظاهر وضع حد لدوامة العنف والجمود السياسي اللذين سادا البلاد. لكن العلاج الذي حددوه كان أسوأ في بعض النواحي من الداء نفسه.

الإحصاءات المتعلقة بعدد المواطنين الأتراك الذين تضرروا مباشرة من الانقلاب تصيب بالذهول والدهشة. في المحصلة أُدرج مليون وسبعمائة ألف شخص في القوائم السوداء، وألقي القبض على 650 ألف شخص، وحوكم 32 ألفا، وسحبت الجنسية من 14 ألف شخص. ومن بين الذين حوكموا بتهمة ارتكاب جرائم حُكم على 517 بالإعدام (وقد نفذ الحكم في النهاية على خمسة منهم)، كما توفي 299 شخصا في ظروف مجهولة، وتوفي 171 تحت تعذيب السلطات، وتوفي أربعة عشر شخصا خلال إضرابهم عن الطعام.

في أيار/ مايو الماضي، أثارت وفاة قائد الانقلاب، الجنرال كنعان إيفرين، الذكريات لدى الأتراك الذين عاشوا حقبة السبعينيات والثمانينيات. كثير من هؤلاء الأشخاص تحدثوا علنا عن كيفية تأثير الانقلاب سلبا على حياتهم، وأحيوا ذكرى من ماتوا خلال الانقلاب أو فقدوا أحبائهم على موقع تويتر بوسم # نتذكره شريرا، مشيرين إلى إرث إيفيرين.

بعد وفاة إيفيرين بوقت قصير، لاحظت الأكاديمية زينب توفيكتشي في مقال بمجلة "نيويوركر" كيف أثر الانقلاب في حياتها بوصفها قارئة شابة نهمة للقراءة، وذلك بخنق تدفق المعلومات، وتجفيف مواد القراءة المتاحة. وكتبت توفيكتشي "في عام 1980 أدخل الانقلاب العسكري تركيا في ظلام وصمت. تعرض باعة الكتب لضغط الحكومة، وصارت الكتب سلعة خطيرة." واستمرت توفيكتشي في وصف كيف أنه، حرفيا، نفد ما لديها من مواد للقراءة، فلجأت إلى إعادة قراءة الموسوعات والمجلات، وحتى قصاصات الأوراق التي أعادت جمعها بدقة.

أطفال الانقلاب

لمعرفة المزيد عن كيفية تأثير الانقلاب في حياة الأفراد، تحدثت مجلة مفتاح مع ستة أتراك من مختلف الأعمار والخلفيات، وكانوا مثل ، توفيكتشي، أطفالا عند وقوع الانقلاب أو بلغوا سن الرشد في أعقابه. لدى بعضهم ذكريات حية مفصلة عن الضرر الذي ألحقه الانقلاب  في حياتهم، في حين أن الآخرين كانت لديهم ذكريات ضبابية عن حوادث متفرقة. على أنه في جميع الحالات كانت الفكرتان السائدتان في جميع الروايات هما الخوف والعزلة.

تتذكر البروفيسور بيلغي يشيل التي تعيش الآن في الولايات المتحدة كيف استيقظت عائلتها على نبأ الانقلاب:

"في ذلك الوقت كنت في السابعة من عمري أقضي أيام الصيف الأخيرة مع عائلتي في إسطنبول (أنا في الأصل من مدينة أضنة) أتذكر استيقاظ أبي وأمي على مكالمة هاتفية في الصباح الباكر، ثم أنهى أبي المكالمة، وقال لأمي "يبدو أنه حدث انقلاب" ، ثم عادوا إلى النوم ثانية. ولأنني طفل فقد عرفت أن هناك شيئا مهما يحدث، شئ من الأمور الخاصة بالكبار التي لا يمكن أو لا يفترض أن أسأل عنها.

"أنيل" تركي آخر يعيش الآن في إحدى ولايات وسط غرب بالولايات المتحدة، كان في الرابعة فقط من عمره عندما وقع الانقلاب. والده قائد الشرطة في بلدة صغيرة في غرب تركيا، استدعاه القائد العسكري للمنطقة في منتصف الليل، بعد مدة قصيرة من الإعلان عن الانقلاب.ولأنه مسؤول رفيع في قوة إنفاذ القانون، فقد كان يُتوقع من والد أنيل أن يمتثل لأي أمر يصدره الجيش، وأن يضمن الحفاظ على الأمن في الأيام الأولى بعد الانقلاب. يلاحظ أنيل، وهو يتأمل في هذه الذكريات، أن "الاستدعاء الأولي كان مخيفا، وخاصة لأمي. لم يعرفوا فقط ما الذي يمكن توقعه. أعتقد أن هذا هو ما شعر به معظم الناس. إنهم لا يعرفون أن يتوقعوا ماذا سيحدث فيما بعد."

إن القلق الأولي الذي شعر به الأتراك في إثر الانقلاب سيزداد عندما يشدد القادة العسكريين الجدد قبضتهم على الساحتين السياسية والاجتماعية. تفاخر الجنرال إيفرين، كما هو معروف، أنه خلال قمع الجماعات السياسية "شنقنا، نحن المجلس العسكري، شخصا من تيار اليمين، وشخصا من تيار اليسار.وأردنا بهذه الطريقة أن نثبت أننا لم نكن منحازين لأي طرف." خلقت عمليات الدهم والاعتقالات ومحاكمات آلاف المواطنين الأتراك ضبابا من الخوف خيم على البلاد بأكملها. حتى القُصَّر لم يكونوا في مأمن من نهج الانقلاب تجاه "سيادة القانون"، وظهرت أجواء ملموسة من الإرهاب حتى بين أصغر الأتراك. من بين أشهر ضحايا الانقلاب الفتى إردال ابن السابعة عشرة والطالب في المدرسة الثانوية الذي أعددم شنقا بعد إدانته بقتل ضابط شرطة.

نشأت الكاتبة والأكاديمية، بينار تريمبلاي، في عائلة لا تعنى بالسياسة . تتذكر بينار وقع أحذية الجنود الثقيلة الذين كانوا يأتون كل صباح لمرافقة الكولونيل الذي يسكن في نفس المبنى السكني الذي تقيم فيه عائلتها، إلى عمله. وعلى الرغم من أن الصوت صار في نهاية المطاف أمرا معتادا، فلا تزال بينار تتذكر القلق الذي سببه لها الجنود، وتقول "حتى يومنا هذا فإن الأحذية مزعجة".

تقول إليف التي تعيش في أوروبا الآن إنه ليس لديها كثير من الذكريات المحددة عن الانقلاب، ولكنها تتذكر المشاعر التي حركتها المواجهات مع الدولة العسكرية. "أتذكر كيف أصابني الخوف عندما أوقف رجال الدرك المسلحون سيارة والديَ. أعتقد أنه كان... هناك حظر للتجوال. وسألونا من أين أتينا. كنت في التاسعة من عمري. أتذكر الخوف فقط."

شعر الأطفال بعظم تأثير الانقلاب بالأساليب المعرقلة التي وضعها الانقلاب وغيرت تعليمهم.تم تغيير المعلمين المشتبه باهتمامهم بالسياسة مع توجيه تحذير صغير لهم أحيانا أو بدون تحذير. تتذكر دينيز التي كانت طالبة في المدرسة المتوسطة في الثانية عشرة من عمرها، كيف تقلب المعملون على فصلها، وعندما استفسرتُ عما كان يحدث، وجدتُ أن كثيرا من المعلمين قد طردوا بسبب انتماءاتهم الحقيقية أو المتوهمة لليسار السياسي.

وكما وصفت زينب توفيكتشي في مقالها بمجلة نيويوركر، فقد أخذت الكتب أهمية رمزية فيما بعد الانقلاب، وعلامة  خطرة على انتماء المرء السياسي المحتمل، أو علامة على الأفكار الهدامة. كان أول شئ فعلته والدة دينيز بعد أن سمعت عن الانقلاب أنها جمعت جميع الكتب الموجودة في المنزل في أكياس، ودفنتها في حقل مجاور. وأُحرقت كتب الأطفال الخاصة بدينيز التي قالت لمجلتنا "لم أفهم في ذلك الوقت لماذا كانت الكتب موضوعا للخوف."

تتذكر دينيز كيف أنه بعد سنوات، عندما كانت طالبة جامعية، كان عساكر الدرك "الشرطة العسكرية" يداهمون غرف النوم في المدينة الجامعية، ويفحصون كتب الطالب بعناية . وتقول "صارت الكتب مرة أخرى في حياتي مواد خطيرة، ولكنني أدركت السبب في هذه المرة. كان ينظر إلى الكتب بوصفها دليلا على أنك يساري أو إرهابي أو فوضوي."

شهدت بيلغي يشيل القبض على عمها الذي كان يعيش مع جدتها بعد بضعة أشهر من حدوث الانقلاب. وبوصفها طفلة فقد  فوجئت بحقيقة أن الجنود أبدوا اهتماما خاصا بمكتبة عمها الكبيرة. (أطلق سراح عم دينيز بعد بضعة أيام سالما) وقد دفعها هذا الحادث إلى أن يزداد افتنانها بمكتبة عمها الخاصة، وكذلك افتنانها بالكتب عموما.

"في كل مرة زرت فيها جدتي وعمي كنت أمضي الساعات وأنا أطيل النظر إلى كتب عمي. لقد صارت الكتب بالنسبة لي مصدرا للغموض. كنت أفكر ما الذي تضمه هذه الكتب بحيث يجعل الجنود يتطلعون إليها؟ هل كانت هذه الكتب السبب في اعتقال عمي؟ لماذا تُعرضك الكتب للمتاعب؟ كانت هناك كتب عن مصطفى أتاتورك، والكمالية، والإسلام، والشيوعية إلى آخره، وما يمكن أن يخطر على بالك من جميع العناوين المشحونة سياسيا. كان هناك كتاب سميك في داخله كلمة "غولاغ" أو معسكرات الاعتقال، وكان هذا الكتاب أروع ما في المكتبة بالنسبة لي. وكانت هناك كومة كبيرة من الصحف من نهاية عقد السبعينيات. هذه الصحف هي من أنقذت عمي. كانت عناوينها عن المسيرات والاحتجاجات، وإطلاق النار، والجيش والشرطة... احتفظ  عمي بهذه الصحف في خزانته. أتذكر أنني أمضيت بضعة أيام في فترة ما بعد الظهر وأنا أقلب هذه الصحف القديمة والكتب".

أعتقد أن إرث انقلاب 1980 بالنسبة لي شخصيا كان الانبهار بالكتب، وفكرة أنها تحتوي على بعض المعلومات الخطيرة.

وعلى حين كان للانقلاب بعض النتائج الإيجابية- بالنسبة ليشيل وتوفيكتشي-  فعلى سبيل المثال منحت سيطرة الدولة على وسائل الإعلام المطبوعة مزيدا من القوة والجاذبية للكتب، فإن من المسلم به أن إرث الانقلاب عموما إرث سلبي.

ميراث الانقلاب

في عام 1982 كان هناك تصويت مباشر على الدستور التركي الجديد الذي صاغه المجلس العسكري في أعقاب الانقلاب. كان الإرهاب والرقابة اللذين فرضتهما الحكومة العسكرية  يعنيان أن المواطنين كانوا تحت قدر كبير من الضغط للتصويت بالموافقة على الدستور. صوتت والدة دينيز بلا في الاستفتاء على الدستور، الأمر الذي كان يتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة، حيث إن التصويت لم يكن سريا.  تقول دينيز "إن لون بطاقة التصويت والمغلف (المستخدمين في التصويت) كانا يوضحان إلى أي اتجاه أعطيت صوتك." أما من صوتوا بلا على الدستور فقد وضعهم المجلس العسكري في القوائم السوداء. كان موظفو الخدمة المدنية يخافون من عواقب التصويت بلا على الدستور. وفي النهاية مُرر الدستور الجديد بموافقة 97% من الأصوات.

لا تزال تركيا يحكمها هذا الدستور نفسه الذي يتضمن نصوصا تجعله أكثر الدساتير قومية وانغلاقا في تاريخ تركيا. ولا تزال مبادئ هذه الدستور وبنوده تعرقل التحرر القانوني والاجتماعي في تركيا إلى يومنا هذا، فالمادة الثالثة من الدستور، على سبيل المثال، تنص على أن اللغة الرسمية في تركيا هي اللغة التركية، في حين تمنع المادة الرابعة من الدستور تغيير ذلك مطلقا. ونتيجة لهذه القوانين تعرقلت الجهود المبذولة لمنح الأقليات، ولاسيما الأكراد مزيدا من الحقوق الثقافية.

لم تكن كتابة الدستور سوى وسيلة قادة الانقلاب لقمع التنوع . يروي الروائي التركي كايا جينتش الذي ولد بعد الانقلاب بمدة وجيزة، لمجلة مفتاح بأسلوبه البلاغي كيف سحق قادة الانقلاب التنوع والتعبير الفردي لعقود من الزمن حتى بعد عودة تركيا إلى الحكم المدني في عام 1983.

كنا نعيش في بلد معزول تماما عن العالم، كنا نعيش في الحاضر المستمر، فقد كان الحديث عن التاريخ أمرا خطيرا، وكان المؤرخون محتقرين. طلبت القومية القمعية من الناس أن يقمعوا فرديتهم وهويتهم الدينية والعرقية.

"كان التحديث الذي قام به الانقلاب مشروعا كبيرا لتطهير الحياة العامة من الأشياء " القذرة " مثل الهوية والفردية والمعتقدات الدينية والتعبير عن الحياة الجنسية. اعتدتُ أن أسافر مع عائلتي إلى لندن، وشعرت بالدهشة من أنه على الرغم من كون بريطانيا ملكية دستورية، فإنها كانت مجتمعا أكثر حرية بكثير، كان كل شيء لديهم على ما يرام مع وجود التاريخ، والنساء المحجبات في الشوارع، واحتجاجات الرعاع على الدولة، ووجود المحافظين واليساريين في مجلس العموم إلى آخره. وعند العودة إلى إسطنبول كان كل شئ نظيفا وشبه عسكري وبلا روح وموات. لقد جعلنا الانقلاب جميعا كابحين لذواتنا. لم يتغير هذا الإرث حقا إلا في العقد الأول من الألفية الثانية. يشعر بعض الناس بالحنين إلى عقد الثمانينيات. أجد صعوبة في فهم ذلك الحنين. قد يبدو الناس أبرياء وهم يسيرون في الشوارع، لكن ذلك كان بسبب انهم أُجبروا على إخفاء كل شئ عن الآخرين. لا يوجد شئ أفتقده في تركيا الثمانينيات.

وكما يصف غينتش، ففي السنوات الأخيرة بدأت تركيا تخرج أخيرا من القمع الثقافي ومن التطابق القومي الذي زرعه المجلس العسكري الحاكم في عام 1980. الأتراك الذين بلغوا سن الرشد خلال السنوات الخمس الماضية ولدوا بعد عقد أو أكثر من الانقلاب، وعلى عكس جيل الانقلاب الذي كافح  حتى من أجل العثور على الكتب، فقد تربى هذه الجيل الجيد في تركيا المترابطة اجتماعيا وفكريا واقتصاديا، والمنفتحة على العالم الأوسع. وقد أظهر هذا الجيل من خلال استعدادهم للاحتجاج، واحتضان التنوع، ونشر الموضوعات المحرمة، وتجنب السياسة التقليدية، أظهروا أنهم يرفضون " القومية القمعية" التي تفرض السرية على الهوية الفردية.

 ولما كانت البلاد تواجه شكوكا وصخبا خول مستقبلها السياسي، فإن الصحوة السياسية للجيل الجديد الذي لم يعقه التراث الثقافي لانقلاب 1980، توفر واحدا من أفضل الأسباب للأمل في أن تركيا ستصمد في وجه العاصفة السياسية الحالية، وستستمر في بناء مجتمع أكثر ليبرالية وتنوعا وانفتاحا.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس