جلال سلمي - خاص ترك برس

أطل رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" بالأمس، 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، على شاشات التلفاز العراقية لإلقاء تصريح صحفي وُصف "بالساخن" نظرًا لتهديده تركيا "بحرب إقليمية" إن لم تسحب قواتها العسكرية من الأراضي العراقية في غضون 48 ساعة.

وعلى غرار العبادي، أمعن المسؤولون العراقيون الآخرون في التوعد لتركيا عبر تصريحات إعلامية شديدة اللهجة كان أبرزها إنذار وزير الخارجة العراقي "إبراهيم الجعفري" بحرب شرسة إذا لم تُنهي تركيا "اختراقها السافر للسيادة العراقية".

وبمنأى عن التطرق للتساؤل المتعلق عن كيفية وجود سيادة حكومية في بلاد تحكمه الميليشيات وتقيم عليه عشرات الدول قواعد عسكرية، وبمعزل عن تصريحات محافظ الموصل السابق "أثيل النجيفي" الذي أكّد طلب رئيس الوزراء "حيدر العبادي" شخصيًا من تركيا إرسال عدد من الجنود إلى أطراف الموصل لإنشاء مخيم عسكري يهتم بتدريب المواطنين العراقيين المتوقع مشاركتهم في عملية تحرير الموصل تحت لواء ما يُسمى "بالجيش الوطني"، يبقى السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا الإطار هو: ما هي أسباب مخاوف تركيا من حيثيات عملية تحرير الموصل؟

إن تقييم وجود القوات التركية داخل العراق هو أمر خاضع لنقاش قانوني حاد، فالقوات موجودة هناك وفقًا لاستدعاء الحكومة العراقية لها، ولكن بعد تراجع الحكومة العراقية عن موقفها وإنكارها لاستدعاء القوات التركية، أعلنت الحكومة التركية انسحاب قواتها نحو إقليم كردستان بموافقة حكومة الإقليم، الأمر الذي اعتبرته الحكومة العراقية غير مقبول ويأتي في إطار المراوغة.

لقد أكّدت الحكومة التركية، على لسان المتحدث باسمها "نعمان كورتولموش"، أنها لن تنسحب من العراق مهما كانت النتيجة، بل وستعزز من وجودها العسكري هناك.

لاستنباط سبب الإصرار التركي على البقاء في المناطق القريبة من الموصل، يجدر بنا التفكر بالمخاوف التي تراود الحكومة التركية جراء وضع الحكومة العراقية ركائز عملية التحرير.

إن أساس المخاوف التركية حيال ركائز عملية التحرير ينبع من إشراك الحكومة العراقية حزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا والمطالب بإقليم استقلال ذاتي في جنوبها الشرقي في عملية التحرير بل ومنحه مكاتب تمثيلية في طوز خورماتو وخناقين وسنجار وداقوق، فضلًا عن لعبه دورًا كبيرًا في إدارة تحركات البشمركة من خلال تأسيس مجلس إداري مشترك تحت مسمى "مجلس سنجار" وتأسيس "حركة المجتمع الكردستاني الحر" وغيرها من الحركات التي يتولى رفع رايتها.

لا شك في أن انتشار منظمة إرهابية في دولة جارة يؤثر بشكل كبير على المصالح القومية للدولة المُحاربة لهذه المنظمة، وفي ضوء ذلك تظهر العوامل التي تسبب المخاوف التركية جراء تمدد نفوذ الكردستاني في العراق على النحو الآتي:

ـ بعد استراتيجي: لم يلبث حزب الاتحاد الديمقراطي أن أسس كيانه المستقل في شمال سوريا حتى أغرق حزب العمال الكردستاني تركيا بتفجيرات طالت عدة مدن كبرى، وتطور نشاطه ليجرؤ على إعلان الاستقلال الذاتي في بعض مدن جنوب شرقي تركيا، وهذا ما شكل خطرًا استراتيجيًا جسيمًا على تركيا التي حاولت صد الخطر المشهود عبر عملية "درع الفرات"، واليوم في ظل تنامي التمدد السياسي والعسكري لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق من خلال تأسيس وحدات مقاومة سنجار "يبيش" بالاشتراك مع البشمركة وبعض قوات الحشد الشعبي، فإن الأمر لن يتوقف على إعلان الاستقلال الذاتي بل قد يتطور إلى حرب داخلية، فالإرهاب يتغذى على الدعم اللوجستي الذي توفره قواعده المنتشرة في الدول المجاورة، فكلما ارتفع عدد هذه القواعد كيفًا وكمًا ارتفع حجم التهديد الاستراتيجي للمصالح القومية للدولة المُحاربة من قبل هذه المنظمة.

وفي هذا السياق أيضًا، تخشى تركيا حدوث تغيّر تركيبي مذهبي أو عرقي لسكان الموصل على وجه الخصوص، فإن حدث تغيّر ديمغرافي مذهبي فهذا يعني ظهور أمواج جديدة للاجئين المتدفقين نحو تركيا التي ترفض التهجير الديمغرافي من منطلق إنساني، والتي لن تقبل أن تصبح الحرب المذهبية التي قد تطالها على صعيد استراتيجي قريبة جدًا من حدودها، كما أن التغيّر العرقي الذي قد يتم في إطار التدفق الكردي إلى الموصل كبديل للمكونين العربي والتركماني، يؤثر في مستقبل حلقة الوصل الرابطة بين تركيا والمكون العربي في منطقة الشرق الأوسط، ويشكل الحزام الكردي الحدودي الذي يسعى حزب العمال الكردستاني من خلاله إلى توسيع رقعة السيطرة الديمغرافية للشعب الكردي، ليظهر أمام الساحة الدولية محقًا في مطالبته بدولة كردية تطال المناطق الحدودية في الشمالين السوري والعراقي وجنوب شرقي تركيا، وهل يُعقل أن تترك تركيا وجودها القومي يخضع للتهديد المذكور دون أن تتحرك ساكنًا؟

ـ بعد سياسي وأمني: اتساع الفجوة في العلاقات التركية العراقية لا يصب إلا في صالح حزب العمال الكردستاني وإيران، وتسعى تركيا للعب في إطار مبدأ "توازن القوى" لإنقاذ الموقف من خلال استجداء تفاهم الحكومة العراقية ومن خلال إبداء دعمها النظامي والشرعي لها كبديل لدعم حزب العمال الكردستاني "الإرهابي"، ولكن الحكومة العراقية تأبى ذلك نظرًا للنزعة المذهبية الواقعة تحت وطأتها.

 تخشى تركيا من تدهور العلاقات مع العراق من خلال الجهود التي يبذلها الكردستاني من خلال إبدائه للتعاون مع الحكومة العراقية في إطار الزيارة التي قام بها زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي "صلاح الدين دميرطاش" لبغداد الأسبوع القادم، قبول بغداد للكردستاني كحليف وتركيا "كمحتل عثماني جديد" يوسع هوة التوتر بين الطرفين ويضفي الغطاء الشرعي الدولي على العمال الكردستاني، وهذا ما يدفع إلى التخوف من تنامي تغلغل الكردستاني الإداري والعسكري في العراق على حساب تدهور العلاقات التركية العراقية وعلى حساب كسبه الشرعية الدولية بعد ظهوره كعنصر مشارك مع قوات دولية محاربة للإرهاب.

ـ بعد قومي: تحتوي الموصل وكركوك على نسبة كبيرة من المواطنين التركمان الذين تشعر الحكومة التركية أنها مسؤولة أمام الرأي العام عن حمايتهم ودرء خطر الإجراءات التعسفية التي قد يقوم بها الكردستاني ضدهم، خاصة بعد التراشق الإعلامي الذي ظهر بين قائد الجبهة التركمانية "إرشاد صالحي" وبعض قادة الكردستاني الفاعلين في العراق.

ـ بعد اقتصادي: لطالما شكلت الموصل البوابة الرئيسية للصادرات التركية تُجاه الشرق الأوسط، وأوضحت بعض التقارير أن الموصل كانت عبارة عن بوابة تمرر 40% من حجم الصادرات التركية، فضلًا عن مساعي تركيا الرامية إلى جعل الموصل نقطة انطلاق للاستثمار المباشر والنقدي من خلال فتح مؤسسات ومصارف كان أهمها مصرف زراعات. بعد تحرير الموصل ربما تُحرم تركيا من هذا الفائدة الاقتصادية التي سعت لتأسيسها في إطار الاتحاد الاقتصادي الليبرالي أو الحر بينها وبين العراق، وحتى وإن عادت للاستثمار ستصبح مؤسساتها على الأرجح عُرضة لأهداف الكردستاني، وهذا ما يدفعها لإبقاء قواتها على أطراف الموصل لإقناع الحكومة العراقية بالتحالف معها والابتعاد عن التحالف مع منظمة إرهابية.

على ما يبدو أن تركيا لن تكل عن محاولة اقناع الحكومة العراقية في التحالف معها، والابتعاد عن التحالف مع حزب العمال الكردستاني، وعلى الأرجح ستضطر للسير في إطار المبدأ الاستباقي الوقائي الذي يقضي بضرورة التحرك المبكر لصد أي خطر مداهم للمصالح القومية، وفي ظل حصول الحكومة على تمديد من البرلمان للقيام بأعمال "دفاعية" داخل العراق وسوريا، قد نرى تحركًا تركيًا عسكريًا نشطًا ضد مؤسسات الكردستاني هناك وتحركًا دبلوماسيًا مكثفًا خاصةً مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الدولة الأكثر قدرة على إلجام الحكومة العراقية، والتي ترغب في مشاركة تركيا في تحرير الموصل والرقة كدولة قوية إقليميًا.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس