إكرم بوغرا إيكينجي - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

ليس اهتمام العالم الغربي بالشرق بالأمر الجديد، فمنذ الحملات الصليبية ساعدت أسفار المحاربين والتجار والحجاج إلى المدن التي حكمها الأتراك على بقاء هذا الاهتمام بطيئا ولكن على أسس عقلانية.

في القرن الرابع عشر عُد السجاد المنسوج في شرق الأناضول سلعة فاخرة في فرنسا، حيث كان الفرنسيون يستوردون هذا السجاد من هناك، ويزينون بها القصور الفرنسية. يكفي أن ننظر إلى لوحات رسامي القرن السادس عشر، مثل هتنز هولبين، ولورينزو لوتو، وبرناردينو دي بيتو، وسبستيانو ديل بيومبو، لمعرفة مدى فضل هذا النوع من السجاد.

الدبلوماسية النابضة بالألوان

عندما زار السفير العثماني الذي أُرسل إلى فرنسا عام 1607 ، قصر فونتيانبلو جنوبي باريس، أثار فضول واهتمام النبلاء. وبعد عامين فقط على هذه الزيارة كان الموسيقيون يرتدون ملابس على الطراز العثماني وهم يؤدون الباليه الفرنسي على خشبة المسرح.

برزت مشاهد مثيرة للاهتمام عندما التقى الملك لويس الرابع عشر السفير العثماني، سليمان أغا. لم يدخر الملك وسيلة للبهرجة والإبهار لكي يؤثر في السفير. كان السفير سليمان أغا مسؤولا عثمانيا صغيرا، وللمفارقة فقد كان يمثل إسطنبول أمام الملك الملقب بملك الشمس. وفي واقع الأمر فإن السفير لم يفتتن، حيث إنه كان معتادا على رؤية كثير من مظاهر الأبهة والبهرجة في إسطنبول. على أن النبلاء بدؤوا يقلدون روعة ملابس الوفد العثماني الغنية بالألوان. ازداد الإقبال على الموضة التركية لاسيما في الحفلات التنكرية. في مسرحية موليير" البرجوازي النبيل"  التي عرضت على خشبة المسرح في عام 1702 كان مشهد الاحتفال التركي حيث ترتدي الممثلات ملابس على الطراز التركي يستحوذ على انتباه المشاهدين.

وفي وقت ما كان أكثر الفنانين الفرنسيين شهرة في القرن الثامن عشر يمنون النفس بأن يصيروا رسامين أتراك. وليس من المستغرب أن نرى الفنان الفلاموني جان بابتيست فان مور ( 1671-1737 ) الذي قضى ثلاثين عاما من حياته في إسطنبول يصور مشاهد مشرقية في لوحاته. على أن السمات التركية  تبدو مثيرة للاهتمام إلى حد بعيد في لوحات رسامين، مثل باروسيل، ولاتور، وتشارلز نيكولا كوكين، وفان لو، الذين لم تطأ أقدامهم الشرق مطلقا. هؤلاء الرسامون اختاروا نماذجهم من بين الوفد العثماني الذي سافر إلى فرنسا في عهد لويس الخامس عشر، وفتن ألباب الباريسيين.

تعود الصداقة بين الأتراك والفرنسيين إلى القرن السادس عشر، وبدأت بالعلاقة الودية بين السلطان العثماني سليمان العظيم (القانوني) وفرانسوا الأول ملك فرنسا. على أن العلاقات الثقافية بين البلدين بدأت في أوئل القرن الثامن عشر. لفت السفير العثماني يرمي سيكيز محمد  شلبي الأنظار في باريس ، وأبرزت الصحف الباريسية أخبار السفير وحاشيته الغريبة  لعدة أيام. وكان السفير شلبي قد أرسل  إلى فرنسا عام 1721 خلال عصر الخزامى (فترة لاله)، عندما وصل العثمانيون إلى درجة عالية من الإبداع . أحب الملك أن يرى هذا الأجنبي. كانت ملابس السفير وسلوكه مختلفة تماما عن النبلاء الذي كان يسمح لهم من قبل بالمثول أمام الملك الفرنسي.

استحق السفير العثماني المثقف محمد شلبي هذا النوع من الاستقبال. ولأن السفير كان لطيفا مع النساء الباريسيات الفضوليات اللائي تهافتن على القصر الذي خصص لإقامته، وأبدى اهتماما بكل ما يراه عن قرب، فقد قالت عنه دوقة أورليان "هو أكثر الرجال الذين قابلتهم في حياتي لطفا وفهما". وبعد محمد شلبي أثار جميع السفراء العثمانيين اهتمام الباريسيين بالقدر نفسه.

تحول الترحيب بالسفير العثماني في باريس عام 1721 إلى مشهد في مسرحية : ففي أحد الجوانب يظهر الوفد العثماني في ملابسه الملونة الأنيقة، وفي الجانب الآخر يظهر الحُجاب والحراس وقادة الجيش في منظر ملائم للرسامين. رسم الرسام العالمي ومورخ فن الرسم أنطوان كويبل، لوحة لمراسم استقبال الملك للسفير العثماني، وقدمها إلى الوصي على العرش فيليب دي أورلينز. وبعد هذه اللوحة رسم بعض الرسامين لوحات أخرى للمشهد نفسه. وقد بيعت هذه اللوحات بأسعار مرتفعة للغاية، وكان النبلاء يفضلون تزيين الجدران بهذه اللوحات. وقد صور الفنان باروسيل هذه المشاهد النبيلة والجميلة على مراحل، ويحتفظ متحف فرساي ببعض هذه اللوحات التي رسمها. أثارت زيارة السفير العثماني لباريس اهتماما كبيرا، إلى حد أن الزيارة لم تكن موضوعا للرسم فحسب، بل كانت موضوعا لبُسط الحائط المزخرفة التي كانت على غرار اللوحات.

الأثر التركي في الحياة الاجتماعية

لطالما انشغلت باريس بالأجانب. ولكي يلقي هؤلاء الأجانب الضوء على السلطة التي يمثلونها جلبوا معهم أحدث الصيحات من قصات الشعر والثياب. لم ينمح تأثير الموضة التركية (A la Turque) بسهولة لسنوات حتى بعد عودة سفير السلطان العثماني إلى بلاده، فقد استمر تزايد إعجاب الغرب بالمشرق الذي بدأ في عهد محمد الفاتح، وهو الإعجاب الذي عرف بأسماء مثل "Turquerie" و"Turkomanie" و"Alla Turca". هذا التأثير المشرقي أثر في جانب كبير من الحياة الاجتماعية من الفن إلى العمارة والملابس والطعام.

جلبت بعض العائلات الفرنسية التي زارت إسطنبول الهدايا التذكارية التقليدية عندما عادت إلى فرنسا، وقدمت هذه الهدايا إلى الملك. ومن ناحية أخرى افتتن الباريسيون بالأقمشة الثقيلة، والملابس المزخرفة، ووقفوا أمام الرسامين ليرسموهم. وصار التوربان التركي (القبعة النسوية) أشهر ملحق زينة في ثياب النساء.

بدأ نبلاء أوروبا في القرن الثامن عشر يرتدون الملابس بالشكل العثماني، ويعقدون مراسم الزفاف على النمط التركي، واحتفظوا بالسجاد وأزهار التوليب والقهوة والفواكه المثلجة التركية في قصورهم وقلاعهم. كانت المواد التركية مرغوبة في مختلف المجالات مثل الأدب والرسم والفنون وفن الأداء والزينة. وكان من الشائع أن تضم الروايات والباليه والأوبرا شخصيات تركية.

صار ارتداء الأزياء التركية في الحفلات التنكرية، والوقوف أمام الرسامين بالملابس التركية عادة للأوروبيين. قال الدبلوماسي الفرنسي هاربيت يصف هذه الحقبة في فرنسا "لقد صارت باريس مثل أحد أحياء إسطنبول تقريبا". ظهر التأثير التركي في الحياة الاجتماعية في أوروبا في شكل الخوف، ثم استمر فضولا وتقليدا، وأخيرا ولادة الاستشراق.

الشارب التركي

تحولت الحديقة التركية "Jardin Turc" التي كانت فيما مضى أشهر حدائق باريس، إلى الخلفية المفضلة لدى مدام دي بومبادور ومدام دي باري، وهما شخصيتان اجتماعيتان شهيرتان طلبتا من الرسام شارل أندريه فان لو، أن يرسم لهما لوحة وهما ترتديان ملابس على الطراز التركي.

في الموسيقى استوحى المؤلفون الموسيقيون مقطوعاتهم من الفرقة الموسيقية الانكشارية العثمانية، وبدأت الثيمات المشرقية تتردد في الحفلات التنكرية وفي المهرجانات. ولدى موزارت وهايدن وبيتهوفن مقطوعات موسيقية بالأسلوب التركي. وثمة قصة أخرى عن هذا الاهتمام، فخلال زفاف الأميرة النمساوية ماريا جوزيفا وأمير سكسونيا فريدريخ أوغسط في عام 1719 أدت مجموعة كبيرة من الشباب الذين يرتدون زي الانكشارية ويطلقون الشارب التركي عرضا موسيقيا. كما أن السفينة التي أحضرت العروس، ومكان العُرس استلهمت من الشكل العثماني. أدت الحروب العثمانية النمساوية إلى جعل القهوة التركية التقليدية مشروبا ذائعا في أوروبا، ولا سيما في باريس من خلال أسرى الحرب. تحولت المقاهي المستوحاه من الشكل العثماني إلى ملتقى للمثقفين وصفوة المجتمع، حتى أنها صارت رمزا لباريس.

والمحصلة أن العمارة الأوروبية والتصميم وحتى العناصر اليومية كان لها نصيبها في التأثر بالموضة التركية. ومن الأمثلة على هذه النزعة أن قباب قصر بيلفيدير في فيينا تبدو كما لو كانت مغطاة بخيمة مزينة، وكنيسة القديس تشارلز في فيينا بأبراجها التي تذكر بالمآذن. في عام 1785 بُني مسجد في حديقة قصر شويتز نجين في ألمانيا، وهو مثال آخر على اهتمام العالم الغربي بالشرق. 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس