دينا رمضان - خاص ترك برس

بنظرة عامة للتاريخ نجد غلبة قيم الدول والحضارات الأقوى، والتي لا تكتسب جاذبيتها – عادة - من كينونتها، وإنما من قوة الدولة أو الحضارة المسيطرة المتبنية لها، مما يدفع باقي الأمم والشعوب لتقمص تلك القيم، والانزياح والتخلي عن قيمها الأصيلة، بشكل واعٍ أو غير واع، ولكن التاريخ نفسه يثبت عدم نجاعة الأمر، غالبا، وذلك لاختلاف خصوصيات كل حضارة وشعب واختلاف الحيثيات والظروف التاريخية.

وفي ظل هيمنة الحضارة الغربية حاليا، نجد الكثير من الدول التي انبهرت بقيم تلك الحضارة وحاولت تبنيها، معتقدة أنها بذلك ستلحق بركب التحضر الذي فاتها. حيث اعتُبِرت تلك المنظومة القيمية، نظريا، حلا مثاليا للشعوب في سبيل تحقيق رفاهها، مع أن الأيام أثبتت أن الجانب الإيجابي من تلك المنظومة لم يكن إلا شعارات يهتف بها سياسيو الدول الممثلة لتلك الحضارة لتحقيق مآربهم في السيطرة على شعوبها.

فماذا حقق النموذج القيمي الغربي على أرض الواقع؟!  هذا النموذج المادي الذي أدى إلى تهميش القيم الأخلاقية وتحويل الإنسان إلى وسيلة أو أداة استهلاكية/ إنتاجية بمعايير السوق، نموذج أدى إلى وقوع 99% من الثروات بأيدي 1% من النخبة، نموذج تتحكم فيه وسائل الإعلام  بالعقول والقلوب، تلك الوسائل العائدة لعدد محدود من رجال الأعمال، ربما لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، نموذج لا حقوق فيه للفقراء، فلا نظام تعليمي ولا صحي يضمن كرامة الإنسان، نموذج يُستخدم فيه سلاح التخويف من الأخطار الخارجية في سبيل قبول السياسات التعسفية...

هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فللأسف أثبتت التجارب أن المطالبة بنشر القيم الغربية لم تكن إلا ذريعة لإجبار بعض الدول على فتح أسواقها للشركات العابرة للقارات بغية استغلال ثرواتها ونهبها... وتجربة العراق ما زالت ماثلة أمامنا، وما يتبعها الآن من إعادة تشكيل "شرق أوسط جديد" هو استمرار لذلك النهج.

وفي مقابل ذلك النموذج الغربي نجد النموذج التركي، نموذجا واقعيا ماثلا أمام أعيننا، هذا النموذج الذي نلحظ فيه تصاعد الخط البياني في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل مطرد، مع حفاظه، بل قل مع محاولة إعادة التوازن لقيمه الاصيلة التي اجتاحتها قيم غريبة عنها في بدايات القرن...

أثبتت تركيا خلال العقود القليلة الماضية نجاحا كبيرا على مختلف الصعد، ولكن كان وما يزال هناك جدل حول المرجعية القيمية التي بُني عليها هذا النجاح، أي؛ هل كانت تلك النهضة بسبب قيم التحديث والتغريب التي تم استيرادها وفرضها على الشعب التركي في عشرينيات القرن الماضي إبان الاستقلال، أم أن تلك النجاحات اعتمدت على الأسس التي تم غرسها في الثمانينيات والتسعينيات وتمت رعايتها لاحقا من قبل الحزب الحاكم الحالي!؟

إن الترديد الدائم لمصطلحات الغرب وقيمه في تركيا، واتخاذها كشعارات لها، ولو نظريًا، رغم اختلاف الدلالات والتطبيقات بالطبع، أدى إلى نوع من الإرباك، وفتح باب الجدل واسعا حول ماهية النموذج القيمي الذي اتخذته تركيا للانطلاق في طريق النهضة.

هذا الفارق الدقيق يجب توضيحه بشكل جلي، حتى لا تقع شعوب المنطقة المتطلعة للتطور والتحديث فريسة للتصورات الخاطئة، التي من الممكن أن تدخلها في متاهات مستقبلية تستنزف الكثير من الزمن الذي يعتبر عاملا مهما وأساسيا بالنظر للتطور غير المسبوق الذي يشهده العالم أجمع في عصر "العولمة".

تمر المنطقة بتغيرات عصيبة وتاريخية قد تؤسس لحضارة ونهضة قادمة، أو قد تهوي بها لعقود اخرى من التخلف والانحسار، فإن كان الطريق الأول هو الخيار؛ فلا بد من نموذج حضاري وقيمي تحتذي به دول المنطقة ليكون أساسا لنهضتها، فمنظومة المنطقة القيمية تم تقويضها خلال العقود الماضية، وهذا عائد بشكل رئيسي إلى 3 اسباب:

1- الضعف والتخلف الحضاري الذي تعيشه المنطقة حاليا، والذي يتم نسبه، بسبب العقلية التبريرية، إلى ضعف المنظومة القيمية وعدم ملاءمتها للعصر، أو متطلبات التحديث، بدل تشخيص المسبب الرئيسي الذي يتمثل بعدم التطبيق الحقيقي لها.

2- الهجوم المكثف الذي تم على هذه المنظومة من قبل المستغربين والمستشرقين، مما شكك فيها وأضعف الإيمان بفعاليتها.

3- التقدم والتطور المادي في الغرب والذي يُعزى لمنظومته القيمية، مما يقود إلى النتيجة بأفضلية منظومته.

وهنا تكمن الحاجة لرسم ملامح واضحة لـ"النموذج القيمي" التركي، الذي أثبت نجاحه وفاعليته على كافة المستويات، والذي نعتقد بقيامه على المنظومة القيمية التي تجمعه مع هذه المنطقة.

تركيا مطالبة الآن وأكثر من أي وقت سابق بتقديم نموذجها القيمي الذي بنت عليه حضارتها، والتوقف عن التغني  بمصطلحات الغرب وشعارته، والإطلاق الفوري لشعاراتها الخاصة، ليس فقط بمقتضى كونها دولة مركزية قائدة في المنطقة، ولا بحكم العلاقات التاريخية وصلات الدين والقربى، وإنما هو واجبها التاريخي تجاه العالم أجمع، وخاصة مع ما يشهده حاليا من جنون وتطرف غير مسبوق، واتجاهٍ إلى انحدار لن يسلم من تأثيره احد.

فهي إذا  فرصة تركيا التاريخية لتبزغ كحضارة قائمة على منظومة قيمية خاصة، تشمل مفاهيم وقيم ثقافية وانسانية تبتعد عن الاقصاء، وتتسع للبشرية جمعاء، فالعالم بشكل عام وشعوب المنطقة بشكل خاص بحاجة إلى مكاشفتها بحقيقة أن الغرب ليس مركز الكون، ولا بد أن هذا "الغرب" بحاجة إلى (كوبر نيكوس) هذا العصر، والذي نحسبه تركيا، لإعلامه بهذه الحقيقة الفاجعة!

عن الكاتب

دينا رمضان

باحثة وناشطة مختصة بالشأن السوري، حاصلة على شهادة EMBA (ماجستير تنفيذي في ادارة الاعمال، PMP الشهادة الامريكية في ادارة المشاريع، دارسة للعلوم السياسية (معهد سياسي) و مدير تنفيذي سابق في احد المنظمات الانسانية المختصة بالشأن السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس