نهى خالد - المجتمع الكويتية

تركيا في مأزق، أو هكذا يدعي كثيرون، استناداً للضغوط المتزايدة عليها، داخلياً وخارجياً، لتتدخل عسكرياً بمواجهة الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) في مدينة عين العرب (كوباني)، القريبة من الحدود التركية وذات التعداد السكاني الكردي، فهي خاضعة لمؤامرة متكاملة من أطراف عدة كإيران والغرب والأكراد لإسقاط دورها وتحجيمه، هكذا يقول المتعاطفون معها، غير أن الواقع بعيد جداً عن هذه الرؤى السطحية للأزمة في الشام، والتي لا تخلو أصلاً من مؤامرات من الجميع وعلى الجميع، فالوجود الإيراني فيها يتسم بالفعل بالصلابة، في حين يتسم نظيره التركي بالهشاشة وفقدان الكثير من الرصيد الذي بناه على مدار سنوات.. فيما يلي نفصّل أسباب ذلك.

الأكراد.. بين تركيا وإيران

كثيراً ما تكلم المحللون عن التحالف الوثيق بين حكومة كردستان العراق وتركيا، إثر الانفتاح التركي على حكومة كردستان بقيادة "البارزاني"، ودعم أنقرة لأربيل في مواجهة السلطة المركزية العراقية في بغداد، لا سيما فيما يخص تصدير الأكراد للنفط دون الرجوع لبغداد، وهو ما يعطيهم استقلالاً اقتصادياً، غير أن وصف هذا التحول في الموقف التركي تجاه المسألة الكردية بالتحالف كان أكثر مما ينبغي، وكذلك الاعتبار بأن أربيل أصبحت في "جيب" أنقرة.

فالأمر لم يعدُ تجلياً للتحول في الرؤية التركية للملف الكردي بشكل عام، ولم يخلُ أيضاً من أمر واقع كان ليفرض نفسه نظراً للتفسخ الذي مر به العراق بعد عام ٢٠٠٣م، لذا، كان لزاماً على تركيا أن تضع بعض البيض في سلة كردستان العراق، وإلا وضعه غيرها، وهو ما أتاح لها أن تشكل الواقع الكردي.

أضِف إلى ذلك؛ أن ابتعاد تركيا عن أربيل كان يعني توجه الأخيرة إلى طهران، وهو ما يؤدي لهيمنة إيرانية كاملة على الملف العراقي؛ لذا، كان انفتاح تركيا على كردستان ضرورياً لكيلا تصبح أربيل بغداد أخرى في جيب إيران، أو في جيب لاعبين آخرين استثمروا في كردستان سياسياً وعسكرياً مثل "إسرائيل".

جراء انفتاحها على كردستان، أصبحت تركيا أكبر مستثمر في كردستان العراق، وأحد أهم منافذ نفط كردستان للسوق العالمية (وإن لم تكن المنفذ الوحيد؛ إذ إن إيران أيضاً تستقبل نفط الأكراد)، إلى جانب ذلك أسست تركيا مدارس وجامعات ومنابر إعلامية في كردستان العراق أكثر من أي دولة أخرى، لا سيما وهي صاحبة دراية بالمنطقة، غير أن تركيا لم تذهب بعيداً في استثمارها لتصل إلى ترسيخ وتوطيد كردستان العراق عسكرياً واستخباراتياً، فهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا فيما يخص كردستان، وقد يزعزع مستقبلاً الوضع في جنوب شرق تركيا.

على العكس منها فعلت إيران، وإن كانت هي الأخرى ضد فكرة الاستقلال الكردي نظراً لاحتوائها على أقلية كردية، غير أنه تحتّم على إيران، الأكثر توجسّاً من "إسرائيل" ودورها الاستخباراتي في كردستان، أن تدفع بثقلها في دعم كردستان في المجالات العسكرية والاستخباراتية لمنافسة "إسرائيل"، وهو ما يعني علاقات أوثق بين الطرفين، وإن لم تكن بادية للعيان نظراً لافتقادها العنصر الناعم والرمزي الذي هيمن على علاقات تركيا وكردستان، لا سيما العلاقة الشخصية بين "أردوغان" و"البارزاني".

أحد أسباب الدعم الإيراني العسكري لكردستان دون حساسية، هو أن المسألة الكردية ليست ملحة في إيران كما هي في تركيا، لأسباب عدة، أولها أن طبيعة المسألة الكردية إثنية، وتاريخها في عداء مع الدولة التركية أكثر من غيرها حيث تقع غالبية الأكراد، وثانيها أن النظام الإيراني ليس قومياً بالدرجة الأولى، ولا جيشها أو أي من أقطاب سلطتها (وإن كان مشروعها الإقليمي تجليّاً للدور الفارسي على مر التاريخ بطبيعة الحال، إلا أنه ليس قومياً بالمعنى الحديث الصلب كما الحال في تركيا ومؤسستها العسكرية).

ليكُن أن تركيا استثمرت أكثر في العوامل الناعمة، ما المشكلة في ذلك؟ ألا يقول الكثير من العارفين بالعلاقات الدولية: إن القوة الناعمة أهم من الصلبة، أو على الأقل لا تقل عنها أهمية؟

لحظات التحوّل: القوة الناعمة الهشة

في أوقات التحول وإعادة رسم الخرائط، غالباً ما تكون المساحات التي يتم فيها استثمار القوة الناعمة في حالة انهيار (المدن، الاقتصاد، طبيعة الحياة اليومية، الإعلام، إلخ)؛ مما يجعلها في هذه اللحظات قوة هشة لا ناعمة، في حين تكون العوامل الصلبة هي المحدد الرئيس لماهية التحول وإلى ما يؤول (القدرات العسكرية بشكل رئيس)، في هذه الأوقات، تكون المساحات ككائن تعرى من كل شيء حتى لم يعد سوى هيكله العظمي في عملية إعادة تشكيل قبل أن يكتسي مجدداً بكافة أشكال الحياة.

على مدار العقد الماضي، كانت إيران حريصة أن تستثمر بقوة في هذا "الهيكل العظمي" للمنطقة، بوجودها العسكري الممتد من "حزب الله" بلبنان إلى مليشياتها الشيعية بالعراق وحتى "الحوثيين" باليمن، في حين كانت تركيا مهتمة بشكل أساسي بغزو الحياة اليومية، من الشركات إلى المسلسلات، بافتراض أن المنطقة لن تنحدر فجأة إلى مستنقع التحول التاريخي الذي هي واقعة فيه اليوم، كان من المفترض أن يؤدي اندلاع "الربيع العربي" إلى إعادة حسابات لدى تركيا فيما يخص إستراتيجيتها بالمنطقة، ولكن المراجعة لم تكن سوى مراجعة سياسية تدفع باتجاه تبني الثورات في معظم الدول التي اندلعت فيها بشكل مثالي، دون امتلاك رؤية واضحة بالضرورة لكيفية ترجمة ذلك واقعياً إلى نفوذ لتركيا، ودون امتلاك الأدوات الكافية على الأرض لتحقيق هذا الدعم لغاياته.

لم تراهن إيران على الربيع أو تحاربه (سوى في سورية لأسباب واضحة)، ونأت بنفسها عن الاحتفاء به، ماضية في إستراتيجيتها التي وضعتها قبل "الربيع العربي"، وفي حين استثمرت تركيا كثيراً في بنية ما قبل الربيع، ثم أعادت الاستثمار سريعاً في الربيع نفسه، كان ذلك دون القدرة الصلبة على تحقيق استقراره في المقام الأول، ودون إدراك أن الربيع لا يمكن أن يكون فقط ما آل إليه في شهوره الأولى بشكله الرومانسي، وأنه يتطلب عوامل أكثر جذرية لتحقيق أهدافه، وأن انجذاب الكثير من رموزه لـ"النموذج التركي" ليس كافياً لإعادة تشكيل الواقع على الأرض (كما جرى مع الإخوان في مصر، والمعارضة السورية "المعتدلة" الكائنة بتركيا، اللذين لا يعدوان اليوم مجرد "تجمّعات إسطنبولية"؛ واجهات هشة تقيم المؤتمرات والمهرجانات، وتقطن في إسطنبول).

الرهان الهش والمأزوم

معظم من يراهنون على تركيا وتراهن تركيا عليهم استضافتهم تركيا، في حين لم تستضف إيران أحداً، بل إن كل حلفاء إيران في مواقعهم يمارسون أدواراً توسّع بالفعل من نطاق النفوذ الإيراني الصلب على الأرض، في حين "مهرجي المعارضة" السورية والمصرية كائنون بتركيا، لا يوسعّون سوى من نطاق النفوذ التركي في الفضاء الإعلامي، (وهم سيكونون رصيداً ثقافياً لها في المستقبل لا شك، ولكنهم ليسوا رصيداً إستراتيجياً على الأرض).

لعل تركيا قد حاولت الرهان على حصان المليشيات السنية التي نشأت بعد الثورة السورية، وبما فيها "داعش" أحياناً، والتي غضت عنها الطرف بشكل واضح نظراً لصعودها السريع، وقدرتها على موازنة الدور الإيراني، وإبقاء كردستان تحت سقف "الخطوط الحمراء" التركية، غير أن تبنّي أي من هؤلاء بشكل صريح من قبل دولة عضوة بحلف "الناتو" كتركيا، تقع الأزمة على حدودها مباشرة (على العكس من إيران، التي يحجبها عن مليشيات السُّنة حزام الشيعة العراقي والأكراد)، لا يخلو من مقامرة، كما أنه ليس سهلاً، بعكس إيران التي تتبنى من تشاء حينما تشاء نظراً لتحررها من أي التزامات أخلاقية غربية، كتركيا الملتزمة بالتحالف الغربي (وهو ما يعني عدم قدرتها على تبني حركات سُنية "متطرفة" بشكل مفتوح، وإن كان ذلك يصب في مصلحتها، وهي الأزمة التي تواجهها الآن مع "داعش"، والتي لا تصب مواجهتها عسكرياً في مصلحة تركيا، ولكنها اضطرت للالتزام بمواجهتها في إطار التحالف الغربي، نظراً لتهديد "داعش" للمكتسبات الأمريكية بالعراق).

عدا ذلك، كل ما تملكه تركيا من قوة صلبة على الأرض هو دولتها وجيشها، وامتيازات وجودها بالتحالف الغربي، وهو ما يقيّدها بطبيعة الحال، لا سيما في الملفات التي تنظر فيها لنفسها باعتبارها مركزاً "عثمانياً"، في حين من يعطونها الامتيازات "الغربية" لتحقيق أهدافها لا يرونها كذلك؛ مما يعني أن ما ترمي إليه أحياناً ما يكون أغلى من قدرتها على تسديد ثمنه إستراتيجياً.

في المُجمَل، كانت رؤية وسياسة إيران (بالنظر لمصلحتها القومية والمذهبية، ولوضعها في المنظومة الدولية) أبعد نظراً، وأكثر واقعية في التعامل مع الحقائق على الأرض، من رؤية وسياسية تركيا التي هندسها "أحمد داود أوغلو" (بالنظر أيضاً لمصلحة تركيا القومية والمذهبية، ولوضعها في المنظومة الدولية).

في نهاية الأمر، يبقى أن نقول: إن الإقرار بصلابة الدور الإيراني وهشاشة التركي ليس تحيّزاً لطرف على حساب آخر، فالتحيّزات والتفضيلات والانتماءات لا تغني عن الحقائق الموجودة على الأرض، إيران، وإن لم يعجب مشروعها الكثيرين، أبعد نظراً من تركيا بشكل عام في سياساتها بالشام، وأكثر واقعية، وأكثر إدراكاً لأهمية القوة الصلبة في المرحلة التاريخية الاستثنائية والتأسيسية التي تمر بها المنطقة حالياً.

عن الكاتب

نهى خالد

باحثة وكاتبة مصرية ومترجمة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس