سعيد الحاج - إضاءات

لم يكن متوقعًا أن يكون دونالد ترامب رئيسًا تقليديًا للولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال، لكن الأيام الأولى للرجل في البيت الأبيض تخطت هذه الصورة المبدئية وفاقت كل التوقعات.

لا أتحدث هنا عن صراعه مع المؤسسات الأمريكية، ولكن عن قراراته المفاجئة وخطابه الحاد في الداخل والسياسة الخارجية، سيما مع المكسيك ثم إيران وأستراليا. هذه البداية ترجح فرضية أن الرجل لن يبتعد كثيرًا عن خطاب حملته الانتخابية ووعوده، التي يبدو أنها لم تكن مجرد حملة شعبوية لكسب الأصوات، بل أيضًا انعكاسًا لمنظومة أفكاره ورؤاه.

«عهد ترامب»؛ مصطلح يبدو أنه سيستمر معنا طويلًا وسيحتاج منا للمتابعة الوثيقة اللصيقة والقراءة المتعمقة، وهو – على ما يبدو حتى الآن – عبء على الولايات المتحدة وعلى مختلف الأطراف والدول، سيما تلك الحليفة لواشنطن، وفي المقدمة منها تركيا.

استبشار تركي بالتغيير

في البدايات الأولى لحملة ترامب الانتخابية داخل الحزب الجمهوري وقبل أن يصبح مرشحًا قويًا للرئاسة، كان لخطابه العنصري ضد المسلمين صدى في تركيا واستوجب ردودًا من صناع القرار في أنقرة، رغم استثمارات الرجل في البلاد. لكن الشهور اللاحقة التي وصلت فيها الحملة الانتخابية لنهاياتها وحصرت المنافسة بينه وبين كلينتون شهدت تراجعًا لحدة النقد التركي له، بل وصل الأمر للاستبشار به على استحياء.

لطالما قيل إن الرئيس المنتخب – خصوصًا في الولايات المتحدة – ليس بالضرورة الأكثر محبة من قبل الناس بل الأقل كرهًا، ويبدو أن هذا القول ينطبق تمامًا على استبشار أنقرة بترامب. مثــَّلَ ترامب بالنسبة لأنقرة أملًا في تغير السياسات الأمريكية تجاهها وتجاه المنطقة أكثر من كونه حليفًا موثوقًا أو رئيسًا مرغوبًا به.

فقد كانت الفترة الثانية لرئاسة أوباما كارثية بكل المقاييس على تركيا، لسياستها السلبية التي فاقمت الأزمة السورية بما يتناقض مع مصالح أنقرة، وبدعمه المضطرد للفصائل الكردية المسلحة في سوريا المصنفة على قوائم الإرهاب التركية، ثم بالدور الأمريكي المشبوه في المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016 ورفض إدارته التحقيق مع المتهم الأول بالوقوف خلفها فتح الله كولن المقيم في بنسلفانيا منذ 1999، فضلًا عن اعتقاله وتسليمه لأنقرة.

من هذا المنظور، شكلت هيلاري كلينتون بالنسبة لتركيا امتدادًا لحقبة أوباما باعتبارها مرشحة الحزب الديمقراطي الذي أتي منه أوباما، ووفقًا لحملتها الانتخابية التي تضمنت قرائن على سياسة خارجية لا تبتعد كثيرًا عما خطه سابقها في سنواته الأخيرة.

اقرأ أيضًا: هل تنفست تركيا الصعداء بانتخاب ترامب؟

أكثر من ذلك، فقد وصلت للسلطات التركية معلومات حول تلقي حملة كلينتون تبرعات سخية من كولن وأعضاء الكيان الموازي في الولايات المتحدة، وهو ما زاد من حماسة أنقرة لترامب خشية من وصول «حليف كولن» للرئاسة وأملًا في تغيير موقف واشنطن من منظمته وإمبراطوريته الإعلامية والتعليمية والمالية على أراضيها.

عضَّد هذا الاتجاهَ لدى أنقرة بعضُ التصريحات التي وردت على لسان ترامب ومساعديه خلال الحملة الانتخابية والتي كان فيها بعض الإشادة بتركيا ودورها في سوريا، ودعم لها في مواجهة الانقلاب الفاشل والكيان الموازي، ووعود بتشكيل مناطق آمنة في سوريا،وتأكيد على أهمية حلفاء واشنطن التقليديين.

إشارات غير مطمئنة

صدرت في حينه عدة تصريحات من قيادات تركية لم تؤيد الرجل صراحة لكنها استبشرت بقدومه خيرًا، أو لنقل عبرت عن تطلعاتها نحو عهد أمريكي جديد مع ترامب(1). بيد أن وتيرة هذه التصريحات ومضمونها تغيرا جداً مع الوقت، وتركا مكانهما لترقب حذر لما يصدر وسيصدر عنه وعن إدارته الجديدة.

هذا الترقب الحذر صنعته على مدى الأيام والأسابيع القليلة الماضية عدة إشارات منه، أهمها:

أولاً، خطابه العنصري ضد المسلمين؛ والذي تزايد مؤخرًا بنحته مصطلح «الإرهاب الإسلامي المتشدد»، فضلًا عن قراره المثير  للجدل ولردود الفعل القضائية بمنع مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة من دخول الولايات المتحدة.

فهذا الخطاب وهذه الممارسات تحمل تركيا مسؤولية مضاعفة وتضعها في موقف محرج، أولًا؛ لأنها دولة مسلمة في نهاية المطاف ويطالها ما طال الدول الأخرى من الخطاب، وثانيًا؛ بسبب مسؤوليتها كرئيس دوري لمنظمة التعاون الإسلامي، وثالثًا؛ لأن قرارات ترامب قد تمتد لدول أخرى وقد تشملها هي يومًا ما، ورابعًا؛ بسبب مواقف الرئيس أردوغان المعروفة إزاء هذا النوع من الخطاب.

إن رد أردوغان على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زياتها الأخيرة لأنقرة ورفضه مصطلح «الإرهاب الإسلامي» هو نموذج مصغر لما يمكن أن تشهده العلاقات التركية – الأمريكية مع صاحب المصطلح الأول ترامب، والذي تجنب كل من أردوغان ويلدرم حتى الآن الرد عليه.

ثانيًا،استمرار دعم الفصائل الكردية في سوريا؛ بل تعاظم ذلك الدعم عبر الإعلان رسميًا عن تقديم واشنطن مدرعات لها بعد تنصيب الرئيس الجديد، إضافة لطلب الأخير من البنتاغون إعداد خطة لمواجهة داعش ومراجعة خطة أوباما المتعلقة بمعركة الرقة، وهو ما قد يعني اعتمادًا أمريكيًا أكبر على قوات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في الفترة المقبلة.

ثالثاً، تأخر التواصل مع القيادة التركية؛ لقد تواصل ترامب هاتفيًا حتى الآن مع عدد من رؤساء الدول الحليفة والصديقة لبلاده من بينهما بوتين وميركل والرئيس الأسترالي إضافة للملك سلمان من قيادات المنطقة، لكن لم يحصل حتى لحظة كتابة هذه السطور أي تواصل مع الرئيس التركي بل لم يحدد موعدًا لذلك حتى الآن.

أكثر من ذلك، فقد ناقش الرئيس الأمريكي فكرة المناطق الآمنة في سوريا مع الملك السعودي وليس مع الرئيس التركي، رغم أن المنطقة الآمنة في الأصل فكرة تركيا التي تنادي بها منذ سنوات طويلة. ولربما كانت هذه إشارة ضمنية إلى تراجع الدور التركي في الرؤية الأمريكية الجديدة مع ترامب، فضلًا عن أن تفاصيل المنطقة الآمنة التي يريدها ترامب قد تختلف جذريًا عن الفكرة التركية وأهدافها وتمظهراتها، وهو ما نتج عنه تصريح مقتضب ومتحفظ من الخارجية التركية حول تصريحه أفاد بضرورة «التمهل حتى معرفة التفاصيل قبل التقييم».

رابعًا، جمود ملف جماعة كولن في الولايات المتحدة حتى الآن؛ على صعيد التصريحات والممارسة على حد سواء، وهو ما يعني أن التفاؤل التركي بتحريك ترامب لهذه الملف قد كان في غير محله، على الأقل باعتباره غير ذي أولوية لدى الإدارة الجديدة بما يعني ضمنيًا أيضًا أن رضى أنقرة والعلاقات الجيدة معها ليست من ضمن أولوياتها حتى اللحظة.

خامسًا، إن عزم ترامب على نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة يبقى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار وتفجير الوضع في المنطقة في أي وقت(2). وإضافة إلى حرج تركيا بسبب هويتها ودورها كما سبق ذكره، فإن هذا التطور المفترض سيزيد من حرج الدول الحليفة لواشنطن أيضًا إن حدث.

ماذا بعد؟

لا شك أن تركيا في موقف لا تحسد عليه؛ فمن جهة ما زالت رؤية ترامب وسياساته غامضة جدًا بالنسبة لها، ومن جهة أخرى فإن شبكة مصالحها مع الولايات المتحدة ضخمة ومعقدة وقد تكون في مهب الريح في حال توترت العلاقات بينهما في ظل رئاسة شخص كترامب، ومن جهة ثالثة فإن مسؤوليات تركيا تفرض عليها أدوارًا وخطابًا قد لا يكون بوسعها الاضطلاع بهما حاليًا.

لعل هذا ما يفسر غياب أي نقد علني وواضح من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء التركيتين لخطاب ترامب وقراره بحظر السفر حتى الآن (تجنب يلدرم التعقيب على الأمر رغم سؤاله عنه بشكل مباشر)، بينما جاءت التعقيبات المنددة به من الناطقيْن باسم الحكومة والحزب الحاكم نعمان كورتلموش وياسين أقطاي والرئيس ورئيس الوزراء السابقين عبدالله غول وأحمد داود أوغلو على التوالي.

هذا المعنى لا يبدو غائبًا عن الإعلاميين القريبين من العدالة والتنمية والحكومة. هلال كابلان، الكاتبة في صحيفة «صباح» المقربة منهما،أكدت في مقال لها حول قرارات ترامب قبل أيام ضرورة تحلي تركيا بـ«الواقعية السياسية» وبعدها عن «الحماسة». تقول كابلان في ختام مقالها «إذا كان ترامب سيكبح جماح السياسات العدوانية للجيش الأمريكي، ويمنع التمدد الإيراني، ولن يقف بوضوح في صف قوات حماية الشعب في مواجهتنا معها، وسيؤطر تواجد منظمة كولن الإرهابية في الولايات المتحدة، فليس من داع لتركيا لأن تتبنى سياسة إما الكل أو لا شيء (ALL OR NONE)».

هذا الكلام الذي يشير إلى ضرورة اهتمام تركيا بأولوياتها الداخلية والإقليمية والالتزام بالمعايير البراغماتية في علاقاتها مع الولايات المتحدة والحذر من أي قفزات غير محسوبة في التصريحات والمواقف مع رئيس صعب التنبؤ بقراراته مثل ترامب تواترت على لسان أكثر من إعلامي ومحلل سياسي تركي في الآونة الأخيرة.

فهل تستطيع تركيا فعلًا الاستمرار في سياسة الصمت والترقب إزاء ترامب رغم الامتعاض غير الخافي من تصريحاته وقراراته؟ أعتقد أن ذلك سيستمر حتى تتضح معالم رؤيته وسياساته المتعلقة بالمنطقة عمومًا وبتركيا على وجه الخصوص، وأن تلك الأخيرة هي ما سيحدد خطاب تركيا وسياستها تجاهه في الفترة المقبلة، خصوصًا ما يتعلق بالملفين الحساسين جدًا بالنسبة لأنقرة: جماعة كولن والفصائل الكردية في سوريا.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس