
د. عبد الله محمد فارح - خاص ترك برس
تعيش الصومال في منطقة جيو استراتيجية تجعلها دوماً محط أنظار القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يجعل التدخلات الخارجية في شؤونها أمراً متكرراً ومتجذّراً. هذا الواقع المعقد لا يقتصر على المنافسة الجيوسياسية فحسب، بل يمتد إلى عوامل داخلية تتمثل في الهشاشة المؤسسية والانقسامات بين المركز والأقاليم، إلى جانب حضور الفاعلين المسلحين الذين يعيدون تشكيل موازين القوة بالنار لا بالسياسة. في ظل هذه التعقيدات، يبرز السؤال: هل يمكن للصومال أن يطوّر نموذجاً سياسياً قادراً على خفض مستوى التأثير الخارجي؟
يقوم الاحتواء السياسي على تحويل التناقضات الداخلية من ساحات صراع مفتوحة إلى مساحات تفاوضية، حيث يتم تقليص دوافع الأطراف للارتماء في أحضان القوى الخارجية. فالاحتواء السياسي هو عملية إنتاج "بيئة مناعة وطنية" تجعل القرار السياسي أقل عرضة للاختراق. ومن هذا المنطلق، يصبح الاحتواء أداة استراتيجية لتجفيف منابع التدخل، إذ إن القوى الخارجية لا تجد موطئ قدم إلا عندما تفشل الدولة في تنظيم خلافاتها. وهنا تتحول سياسة الاحتواء إلى خط دفاع أول يحمي الصومال من إعادة تدوير الأزمات عبر جهات خارجية فاعلة.
الاحتواء السياسي كآلية لتفكيك بيئة النفوذ الخارجي
يؤكد المفكر الفرنسي ريمون آرون أن الدول التي تعجز عن إدارة خلافاتها الداخلية "تُتيح لغيرها مساحة أكبر لتعريف مصالحها بالنيابة عنها". وهذا ما عاشته الصومال منذ التسعينيات، حيث أدى تفكك السلطة المركزية إلى خلق فراغ سياسي استغلّته قوى إقليمية ودولية لتوسيع نفوذها. وإن التدخل اتخذ أشكالاً متعددة، من دعم جماعات محلية بالسلاح، وتأجيج العنف، إلى بناء تحالفات مناطقية، أو التأثير على مخرجات الانتخابات والسياسة.
فالاحتواء السياسي يتحول إلى آلية لإغلاق النوافذ المفتوحة التي تمر منها تلك التدخلات، فمن خلال احتواء الخلافات بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم عبر الحوار وتوازن المصالح، يتم تحييد البيئة التي كانت سابقاً حاضنة للتدخلات الخارجية. كما يتيح الاحتواء إنتاج قواعد تفاعلية واضحة تمنع الأطراف الصومالية من استدعاء الدعم الدولي لتعزيز موقعها المحلي.
وبمعنى أوسع، فإن نجاح الاحتواء يعني إعادة الدولة إلى موقع "المحدّد الرئيسي" لمسار السياسة، بدلاً من أن تكون مجرد طرف داخل صراع تتحكم به أطراف إقليمية. وكلما زادت قدرة الدولة على احتواء التوترات الداخلية، تراجع وزن التدخل الخارجي، لأن الأخير يفقد المبرر والبيئة التي ينتعش فيها. وهكذا يصبح الاحتواء إطاراً لإعادة تعريف حدود التأثير الأجنبي، لا مجرد وسيلة لإدارة خلافات داخلية.
تعزيز الشرعية الداخلية بوصفها أساس التحصين الوطني
يقول ابن خلدون إن "الملك لا يقوم إلا بالعصبية"، بمعنى أن قوة الدولة تتأسس على وحدة الداخل قبل أي شيء آخر. في الحالة الصومالية، تعاني الدولة من فجوة ثقة بين المركز والأقاليم، وهو ما يدفع كل طرف إلى البحث عن داعم خارجي يحقق له توازناً في مواجهة الطرف الآخر. هنا يتدخل الاحتواء السياسي ليعالج أصل المشكلة: إعادة بناء الشرعية عبر خلق شعور عام بأن الدولة هي مظلة الجميع وليست طرفاً في الصراع. والشرعية تُبنى عبر ثلاث أدوات رئيسية؛ تقاسم السلطة بشكل عادل، وإشراك الأقاليم في القرار، وإعادة بناء المؤسسات على أسس مهنية لا عشائرية. وعندما يشعر الفاعلون المحليون بأن النظام السياسي يضمن حقوقهم، فإن حاجتهم إلى الحماية أو الدعم الخارجي تتراجع تلقائياً. فالاحتواء السياسي يخلق ما يسمّيه جون لوك "عقد الثقة" بين الحاكم والمحكوم، ما يجعل أي محاولة للتدخل الأجنبي تُواجه برفض مجتمعي وسياسي واسع. كما أن تعزيز الشرعية يقلّل قدرة القوى الخارجية على تقسيم الداخل أو الاستثمار في الانقسامات المحلية.
الاحتواء بوصفه استراتيجية وقائية
ترى حنّة آرندت أن السلطة الحقيقية لا تتأسس في لحظة الأزمة، بل في القدرة على منع وقوعها. وهذا ينطبق بشكل واضح على الحالة الصومالية التي غالباً ما تتعامل مع الأزمات بعد انفجارها، لا قبل تراكم شروطها. يعتمد الاحتواء السياسي على تحويل آلية الحكم من "إدارة الأزمات" إلى "منع الأزمات"، وذلك من خلال توفير قنوات تواصل مفتوحة بين المركز والأقاليم، ومأسسة الحوار، وتثبيت قواعد مشتركة للّعب السياسي.
وإن هذه المقاربة الوقائية تقلّل فرص توظيف الأطراف الخارجية لأي ثغرة داخلية. فحين تكون خطوط التواصل قائمة، لا تحتاج الأقاليم إلى البحث عن وسطاء إقليميين. وحين تكون المؤسسات قادرة على إدماج مختلف القوى، فإن الحركات المسلحة تفقد جزءاً من قدرتها على استغلال المظلومية السياسية. كذلك يسمح الاحتواء بصياغة "خطوط حمراء وطنية" تُتفق عليها مسبقاً، تمنع أي طرف داخلي من تجاوز المصلحة الوطنية مهما كانت الضغوط.
يثبت المشهد السياسي الصومالي أن التدخلات الخارجية نتيجة طبيعية لفراغات داخلية لم تُعالج بالشكل الصحيح. فالاحتواء السياسي بصيغته القائمة على إدارة التناقضات وفتح قنوات الحوار واستيعاب الأطراف، إذ يقدّم للصومال طريقاً عملياً نحو تضييق مساحة التدخل الأجنبي. فحين تنجح الدولة في بناء شرعية تستند إلى العدالة والتمثيل المتوازن، تصبح محاولات القوى الخارجية لاختراق الداخل أقل تأثيراً، بل وأكثر كلفة.
كما أن اعتماد الاحتواء كمنهجية وقائية يتيح للدولة الانتقال إلى موقع صانع الاستقرار. وهذا التحول يخلق بيئة سياسية لا تترك للقوى الإقليمية فرصة لفرض تصوراتها، لأن الداخل نفسه يصبح قادراً على إنتاج توازناته وقادراً على حلّ مشكلاته.
في النهاية، لا يمكن للصومال أن تستعيد سيادتها دون بناء نموذج سياسي قادر على تنظيم الخلافات بدلاً من تصديرها للخارج. وعلى المدى البعيد، سيُظهر الاحتواء السياسي أنه ليس مجرد تكتيك مرحلي، بل حجر أساس في إعادة بناء الدولة الصومالية على أسس متينة تحميها من العواصف القادمة من الخارج.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس











