أحمد طلب الناصر - خاص ترك برس

لم يهدأ هاتفي الجوّال وجميع وسائل التواصل الاجتماعي ليلتها.

الأهل والأصدقاء والأقارب المنتشرون، قسراً، في كل بقاع الأرض، تواصلوا معي وبقوا يتابعون ما أكتب وأنشر على صفحتي الخاصة من تطوّرات المشهد التركي لحظة بلحظة وساعة بساعة. الحقيقة تقول بأن أكثر من نصف العالم لم ينم في تلك الليلة، وبالذات أولئك العارفون مسبقاً بساعة الجريمة وخطّطوا لها، وهم كُثر.

لا يهمّ كل ذلك الآن، فما حصل منذ عام وبضع ساعات، قد حصل وانتهى، ليأتي صباح اليوم التالي مخيّباً لآمال أولئك الكُثر بعد أن تابعوا على شاشات التلفزة صيحات وضحكات الأطفال الأتراك، ودموع ذلك العجوز الذي ظلّ جالساً في منتصف الطريق بعد هروب واستسلام وفشل المنقلبين.. بقي جالساً يلوّح بالعلم التركي ودموعه تخضّب لحيته المشيبة. تلك الدموع لا أزال حتى اللحظة أبحث عن معنى مناسب لها، لكني أفشل كل مرّة بتفسيرها!

شعرت أنها ممزوجة بكل تفاصيل التاريخ الذي عاشه ذلك العجوز، بحلوه ومرّه، بانتصاراته وانكساراته، باستقامته وانعطافاته.. آهٍ لكَم ذكّرني بذلك الشهيد الثمانيني في بلدي (أبو صبحي الدرة) وهو يردّد قصيدة "شفيق جبري": يا فتية الشام للعلياء ثورتكم..  

التناقضات التي حملت تفاسير دموع الرجل، وخاصة حين نظرت إلى شفتيه الباسمتين، جعلتني أقرأ من خلالها مشاعر الشعب التركي بأكمله.. لقد أرادت أن تقول لي بكل بساطة: "إن التاريخ بعد ليل الخامس عشر من تموز، لن يكون كالمساء الذي سبقه".

وبالعودة إلى بداية الأحداث من ذلك الليل، كنت، كجميع السوريين في تركيا، أقلّب محطّات الأخبار وأتابع ما يُنشر على صفحة "الفيس"، لكني لا أعلم مصدر السَـكينة التي حطّت فجأة على روحي وجسدي في ذلك الزمن بالذات! كانت زوجتي أكثر الأشياء قَـلقاً في بيتنا الصغير على أطراف إسطنبول الأوروبية، كانت تتعجّب من أسلوب ردّي على المكالمات الواردة حين أتحدّث ضاحكاً وأنا أصف وأحلّل الأحداث المتسارعة بدءاً من انتشار خبر الانقلاب الوضيع مروراً بإطلالة الرئيس إردوغان على هاتف المذيعة الشجاعة وصولاً إلى ظهوره على شاشة التلفاز بين أبناء شعبه.

لم تمرّ دقيقة واحدة دون كتابتي لمنشور جديد على الصفحة، تبعاً لتوارد الأخبار. منشورات كانت تستفزّ وتثير استغراب كل من قرأها، لدرجة أن كثيراً من أصدقائي المتابعين ظنّوا بأني خارج تركيا ولست متابعاً أو مهتماً لما يجري على أرضها من أحداث.

اقتحام مبنى التلفزيون التركي الرسمي وبثّ خبر الانقلاب.. نزول العسكر والدبابات إلى الشوارع.. إغلاق جسر البوسفور وعزل القسم الأوروبي لإسطنبول.. تطويق مطار أتاتورك.. أصوات الطائرات الحربية.. قصف مبنى البرلمان التركي.. أخبار المحطات الفضائية التي أوصلت أردوغان إلى المانيا وروسيا!..

تلك الأحداث وغيرها تابعها الأتراك والعالم كله، وراحوا ينسجون حولها القصص والحكايا والتصورات والتحليلات، لكنها لم تشكّل عندي أدنى هاجس بالخوف أو التوتّر. كنت أدوّن كل حدث منها بهدوء على صفحتي وأنهيه بعبارة "اذهبوا إلى النوم" وأحياناً بضحكة افتراضية!

كان يسألني البعض من خلال التعليقات عن سبب لامبالاتي وأحياناً سخريتي الواضحة ممّا يدور حولنا في تلك الليلة، وكنت أجيبهم بأن العالم كله على صفيح ساخن، وما يحصل في تركيا الآن جزء بسيط مما يحدث في هذا العالم، وما حصل لنا نحن السوريين، ولسوريا، على مرّ سنوات الثورة جعلني أرى بأن كل كوارث الأرض لا تستحق الوقوف عندها أو مقارنتها بكارثتنا السورية.

مرّت الساعة الأولى، فالثانية، فالثالثة، والأنباء لا تزال تتضارب حول فشل أو نجاح الانقلاب. وفجأة، ظهر ذلك المشهد الذي خاطب فيه الرئيس إردوغان الشعب التركي ببضع كلمات من خلال هاتف ككل الهواتف التي نحملها، وربما أقلها سعراً، ليضعهم أمام خيارهم المصيري: "انزلوا إلى الشارع"..

- ما هذا الذي يطلبه منهم رئيسهم بعد كل الأخبار المؤكّدة سيطرة الانقلابيين؟ وبعد الدماء التي سالت في الشوارع وأجساد أصحابها لا تزال على قارعة الطريق تنزف دون تجرّؤ أحد لإنقاذها أو سحبها؟

- يطلب من الشعب النزول إلى الشارع، والشعب نفسه لا يعلم من أي منزل أو غرفة أو بقعة على الأرض يتحدّث معهم!؟

"انزلوا إلى الشارع".. قالها ثم أنهى الاتصال بعد أن وعدهم بلقاءٍ قريب.

ونزل الأتراك إلى الشارع قبل أن ينهي رئيسهم الاتصال!

نزلوا.. ففتحوا شوارعهم، وأرهبوا عسكرهم، وأخرسوا آلة حربهم، وكفّنوا شهداءهم.

نزلوا إلى الشارع، بأجسادهم فقط، ورايات بلدهم، وصيحات "يا الله.. بسم الله.. الله أكبر" فكان لهم ولرئيسهم ما أرادوه..

"انزلوا إلى الشارع".. ثلاث كلمات فقط كانت كفيلة لإفهام العالم أجمع بأن الحرّية والكرامة والازدهار والديموقراطية التي شعر بحلاوتها الأتراك خلال عقد ونصف من الزمن، تستحق منهم التضحية بكل ما يملكون كي لا تعود عقود التسطّح وتحكّم القمع والجهل المرافق لعهود انقلابات العسكر..

ثلاث كلمات قلبت مفاهيمي رأساً على عقب وأرغمتني، أنا المفجوع ببلدي ورئيس نظامها البائد، على مضاعفة احترامي لهذا الشعب الحي، واحترام رئيسه الذي استحق ثقته بجدارة وصدق، تلك الثقة التي تجسّدت بإفشال انقلاب هو الأفظع والأشد وطأة من سابقيه لأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا، ولن أبالغ إن قلت بأنه الأخير أيضاً، فتركيا قبل 15 تموز ليست كتركيا بعده.

ختاماً، أهنّئ إردوغان بهذا الشعب الوفي، وأهنئ هذا الشعب برئيسه الطيب، وأهنئ الأرض التركية برئيسها وشعبها الصادقَين متمنياً من الله عزّ وجلّ أن يحفظها ويحميها من كل سوء.

الرحمة للشهداء، وكل تموز وتركيا التي أٌحب بألف خير.

عن الكاتب

أحمد طلب الناصر

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس