سعيد الحاج - الجزيرة نت 

قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -في 23 و24 من يوليو/تموز الجاري- بجولة في منطقة الخليج العربي، شملت كلاً من قطر والسعودية والكويت، ضمن مساعيه لحل الأزمة الخليجية وفي توقيت فارق الدلالة.

الموقف التركي

منذ الساعات الأولى للأزمة الخليجية بلورت تركيا موقفاً واضحاً ومتقدماً إلى جانب قطر تبلور في عدة مسارات. فقد سارعت -في الساعات الأولى- إلى فتح جسر جوي يحمل المواد الغذائية للدوحة، كسراً للحصار الاقتصادي وتخفيفاً للضغوط عليها.

ودعت أنقرة إلى التعامل مع الأزمة بحكمة وعقلانية وعبر الحوار للوصول إلى حل سياسي سلمي، في وقت كانت هناك مخاوف حقيقية من سيناريوهات مجنونة وكارثية، مثل محاولة ترتيب انقلاب داخلي أو تدخل عسكري ضد قطر.

كما أكد أردوغان وقوف بلاده إلى جانب قطر بتصريحات كثيرة وحاسمة في نفي تهمة الإرهاب عنها، بل وتأكيد أن كلا البلدين يعملان معاً لمواجهة المنظمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

ورغم موقفها الواضح إلى جانب حليفها القطري؛ لم تستعْدِ تركيا دول الحصار خصوصا السعودية، وحافظت على مساحة مقبولة من الحياد والتأكيد على الحل السلمي، مما سمح لها بهامش للعب دور في الأزمة.

نشطت الدبلوماسية التركية، فتواصل أردوغان هاتفياً مع عدد من الرؤساء والزعماء ذوي العلاقة بالأزمة، في مقدمتهم أمير قطر وأمير الكويت وملك السعودية، إضافة للرؤساء دونالد ترمب وفلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون.

وزار وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو المنطقة في 14 يونيو/حزيران الماضي، دون أن يحقق نتائج كبيرة في حينه. ومع هذا كله، لم تطرح تركيا مبادرة مستقلة ولا جعلت نفسها بديلا عن الوساطة الكويتية، بل دعمتها وشجعتها وأكدت أن جهدها مكمل لجهود أمير الكويت.

بيد أن الخطوة التركية الأهم والأجرأ تمثلت في موافقة البرلمان التركي على إرسال جنود إلى قطر، وفق اتفاقية التعاون العسكري المبرمة بين الطرفين في 2015، وهو التصويت الذي سرّعه حزب العدالة والتنمية الحاكم في رسالة سياسية بارزة الدلالة والتأثير.

نزع تصويت البرلمان التركي -مع عوامل أخرى- فتيل الأزمة وقلل من حظوظ السيناريوهات الكارثية، لا سيما مع دفعات الجنود الأتراك الذين وصلوا إلى قطر تباعاً منذ يوم التصويت، والمناورات العسكرية المشتركة بين الطرفين.

سياق الزيارة

خمسة أسابيع مرت بين جولة وزير الخارجية التركي وجولة أردوغان في المنطقة، تغير فيها الكثير على صعيد الأزمة وأطرافها وسقف مطالبها والحلول المطروحة لها.

فقد أتت جولة أوغلو في ظل تصلب دول الحصار وضغوطها الشديدة على قطر، والتي دعمتها -في أيامها الأولى- تصريحات ترمب، فماطلتالرياض في الموافقة على الزيارة التي تخللها توقيف صحفيين تركيين، ولم تخرج الجولة بشيء يذكر.

واليوم، تأتي جولة أردوغان وقطر أفضل موقفاً في الأزمة، بعد تراجع دول الحصار عن "الشروط" وطرحها ستة "مبادئ" للحل، وبعد إثبات مسؤولية الإمارات عن قرصنة وكالة الأنباء القطرية.

كما أن مطلب دول الحصار بقطع العلاقات العسكرية مع أنقرة وإغلاق القاعدة العسكرية التركية (قاعدة الريان) في قطر لم يعد مطروحاً، وهو ما يعني ضمناً قبولاً للدور التركي.

أكثر من ذلك، يبدو أن هنالك ضوءاً أخضر -إن لم يكن طلباً- سعودياً لدور تركي فاعل في حل الأزمة، بعد إدانة الإمارات بالقرصنة وفبركة تصريحات أمير قطر، الأمر الذي أحرج دول الحصار خصوصاً الرياض، مما يعني أن زيارة الرئيس التركي قد تقدم سلماً لها للنزول عن الشجرة.

ومما يدل على رغبة الرياض في دور تركي ما -أو على الأقل عدم معارضته- تراجع حملة الإعلام السعودي ضد أنقرة، التي وصلت ذروتها خلال الأيام الأولى للأزمة بالدعوة إلى دعم حزب العمال الكردستاني، وإقامة دولة كردية في جنوب تركيا، والاحتفاء بقيادات حزب الاتحاد الديمقراطي (الامتداد السوري للحزب الكردستانيالتركي) المصنف على قوائم الإرهاب التركية.

تبدُّل الموقف الدولي -وتحديداً الأميركي- من الأزمة انعكس على موقف دول الحصار، وزاد حرجها بعد أن تحولت من أزمة خليجية إلى أزمة دولية بامتياز، مما رفع من فرص الحل السياسي التفاوضي الذي يحتاج لجهد العديد من الأطراف.

جولة أردوغان الخليجية تضعه في سياق التوسط وطرح المبادرات، إذ هو أول رئيس يزور المنطقة من خارجها بعد اندلاع الأزمة. وقد زار قطر الدولة المحاصَرة، والسعودية أهم دول الحصار، والكويت صاحبة المبادرة والوساطة، واستثنى كلاً من الإمارات والبحرين.

اعتبر البعض ذلك موقفاً تركياً من أبو ظبي تحديداً لدورها التصعيدي في الأزمة، ولدورها السابق في الانقلاب الفاشل في تركيا على أردوغان، بينما تخوف آخرون من أن يؤثر ذلك على فرص نجاح الجولة في تحقيق أهدافها.

بيد أن الجولة تأتي في سياقات مشجعة كما سبق ذكره، وبعد ضوء أخضر سعودي معلن أو ضمني، وفي ظل قناعة كل الأطراف -وفي مقدمتها دول الحصار- بأن الطريق الوحيد للحل هو الحوار. بهذا المعنى، يمكن لأنقرة أن تلعب دوراً محورياً، لعلاقاتها المتميزة مع الدوحة والجيدة مع الرياض، ولتكاملها مع الوساطة الكويتية والجهود الدولية.

ليس من المنطقي توقع نتائج إيجابية كبيرة ومباشرة لجولة، إلا أنها ستكون خطوة أولية لإمكانية فتح مسار للحوار المباشر بين أطراف الأزمة وتحديداً قطر والسعودية، بعد إجراءات أولية لبناء الثقة وتجاوز الأزمة، وهو أمر قد يستغرق وقتاً لكن لا مفر منه. وفي الحد الأدنى، ستكون جولة أردوغان بداية لمسار يتخطى مرحلة فرض الشروط إلى مرحلة سماع الرأي الآخر، وتهيئة الأجواء لبدء الحوار.

من يعرف الرئيس التركي يدرك أنه ما كان ليبدأ جولته الخليجية إلا وهو مطمئن إلى عدم فشلها في الحد الأدنى، وما كان ليعرّض نفسه لحرج كبير. وبالنظر للأهمية التي تحملها زيارته كرئيس دولة؛ ثمة فرصة لطرح مسار للحل، أو مبادرة تقترحها تركيا بالتعاون والتنسيق مع الكويت أو بالتكامل مع وساطتها.

مستقبل العلاقات

رفعت هذه الأزمة العلاقات التركية/القطرية إلى مستوى إستراتيجي وفتحت لها آفاقاً وأبعاداً جديدة، وبلورت حضوراً تركياً فاعلاً ومؤثراً في المنطقة سيزداد عمقاً ورسوخاً مع الوقت.

فقد كان موقف تركيا من الأزمة نوعاً من رد الجميل لقطر على موقفها ليلة الانقلاب الفاشل، كما أن الحصار الاقتصادي عليها فتح لها أبواباً إضافية للتعاون مع أنقرة، فضلاً عن أهمية ودلالات "قاعدة الريان" العسكرية، وما سيفتحه اتفاق التعاون العسكري بين البلدين من آفاق مستقبلية إستراتيجية.

كان واضحاً -منذ أيام الأزمة الأولى- حرص أنقرة البالغ على العلاقات مع الرياض رغم اختلاف الرؤى والمواقف، وهو ما أمّن لها إمكانية لعب دور الوسيط أو المقرِّب لوجهات النظر.

وستستمر العلاقات التركية/السعودية بشكلها الحالي دون هزات كبيرة في المستقبل القريب، لكن الأزمة قد ألقت بظلالها فعلياً عليها، وأكدت خطأ الانطباع الذي ساد فترة عن "حلف" أو "محور" سعودي/تركي.

وهو ما يعني أن الطرفين سيحتاجان إلى جهد كبير لترميم ما أصاب العلاقة من تذبذب وانتكاسة إذا ما توفرت الإرادة لذلك، لا سيما في الجانب السعودي بعد المتغيرات الأخيرة في العائلة الحاكمة. ويعني أيضاً أن مستقبل العلاقات على خط أنقرة/الرياض سيحدده الجانب السعودي أكثر من التركي.

بالنسبة للإمارات، ولرغبة تركيا في عدم التصعيد والتوتير مع أي دولة أخرى؛ فمن المرجح أن تبقى العلاقات فاترة جداً وبمستواها الأدنى، بلا علاقات طبيعية، لكن أيضاً بلا قطيعة.

فلم تنس أنقرة بعدُ دور الإمارات في دعم المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أحيت ذكراها الأولى قبل أيام فقط، ولا يمكنها غض النظر عن الأدوار التي تلعبها أبو ظبي في دول عديدة في المنطقة، لكنها تفضل في كل الأحوال عدم التصعيد.

وفي الخلاصة، رسّخت الأزمة الأخيرة العلاقات الوطيدة بين أنقرة والدوحة أكثر فأكثر، وجعلت منهما ثنائياً أقرب للمحور لما لهما من رؤية ومواقف مشتركة أو متقاربة من مختلف القضايا، فضلاً عن شعورهما بالاستهداف المشترك والمصير الواحد إلى حد بعيد.

أما إذا ما تصلبت دول الحصار في موقفها الرافض حتى الآن للحوار والحل، واستطالت الأزمة كثيراً أو تفاقمت؛ فإن ذلك قد يساهم في إعادة تموضع في المنطقة قد تنشأ عنها اصطفافات وتحالفات أعمق وأقوى وأطول مدى من الحاصلة حالياً، ويمكن أن تتخطى الثنائي التركي/القطري لتصل إلى إيران وغيرها. وذلك موضوع أكثر تعقيداً وأبعد مساحة من عجالة هذا المقال في كل الأحوال.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس