ترك برس

التقت الصحفية الفرنسية "انكي بابتيست" من موقع "لو كلي دو مواين أوريون" الفرنسي، الاقتصادية التركية دنيز أونال، للإجابة على تساؤل "ما هي السياسة الاقتصادية التي تتبعها تركيا الحديثة؟" وتناول تاريخ نمو الاقتصاد التركي.

تخرّجت أونال من جامعة بانتيون السوربون، وهي خبيرة اقتصادية في مركز الدراسات المستقبليّة والمعلومات الدوليّة. تغطي بحوثها التجارة الدوليّة، واتفاقيّات التجارة الإقليميّة، والتحليل المقارن لمستوى الأسعار، وتكاليف الرواتب في الصناعة، فضلا عن دراسة كل من تركيا والصين. وعموما، ترجمت أونال العديد من الأعمال الأدبيّة التركيّة الحديثة إلى الفرنسيّة تحت اسم إيليف دنيز المستعار.

سنة 2002، تولّى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا. فهل يمكننا العودة إلى تاريخ التنمية الاقتصادية في تركيا منذ تأسيس الجمهورية بهدف توضيح الخلفية التاريخية التي تسبق تسلم الحزب الحالي لمقاليد السلطة؟

عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا سنة 2002، كانت البلاد تمر منذ سنة 2001 بأخطر الأزمات السياسية والاقتصادية في تاريخها. وعلى الصعيد الاقتصادي، مثلت الأزمة التي عرفتها تركيا حينها أزمة السيولة الكبرى التي هزت العالم سنة 2008، حيث شهدت البلاد آنذاك انفجارا في نظامها المصرفي.

منذ توليه السلطة، ودون الحاجة إلى الاعتماد على ائتلاف، شرع حزب العدالة والتنمية في إحداث تحول كبير في أساليب الإنتاج والحكم في البلاد. ويُعتبر ذلك نجاحا واضحا، إذ يمكن القول إن انتخاب حزب العدالة والتنمية سنة 2002 كان بمثابة متنفس اقتصادي لتركيا. ابتداء من سنة 2008، أو تحديدا منذ سنة 2012، بدأ الحزب تدريجيا، بوضع سياسة تميزت بالغموض على مستوى الحكم. وبالتالي، من الضروري الوقوف على الخلفية التاريخية للسياسات الاقتصادية التي وُضعت تباعا في تركيا، حيث أن فشلها يُوضح ظروف وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

عندما أنشئت الجمهورية سنة 1923، ما هو الخط الاقتصادي الذي تم تبنّيه لمواجهة الديناميكية الأوروبية حينها؟ وإلى متى تم اتباعه في تركيا؟ ثم ما هي خصائصه؟

سنة 1923، تأسست الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية. اقتصاديا، لم تشهد الدولة العثمانية على الثورة الصناعية وتخصصت في الإنتاج الزراعي، مما أدى إلى وضع حد لعملية التصنيع على أراضيها. وابتداء من سنة 1923، باشرت الجمهورية بتغيير نظامها الاقتصادي، حيث كانت هذه العملية صعبة للغاية، خاصة وأن أغلب السكان كانوا من الريف وغير متعلمين.

وباختيارها لموقف عملي، مستوحى من النموذجيْن الأمريكي والسوفييتي، اعترفت تركيا بالملكية الخاصة على الرغم من أنها ظلت مشاركة في عملية التصنيع التي تم التخطيط لها بقيادة الحزب الواحد- حزب الشعب الجمهوري. وتتميز هذه المرحلة الأولى من التاريخ الاقتصادي التركي باستراتيجية تنمية ذاتية الحكم. أما الإمدادات الصناعية، فهي تصنع من المساهمات المحلية وهي موجهة نحو السوق الداخلية. وفي الواقع، تقتصر صادرات البلد القليلة على المنتجات الزراعية.

وفي المفترق الجغرافي بين أوروبا وآسيا، الذي يتأثر كثيرا بمواجهة الكتلة السوفييتية والكتلة الأمريكية التي احتدمت مع نهاية العرب العالمية الثانية، انتهجت تركيا، كما لاحظنا، أسلوبا براغماتيا يتمثل في أخذ النموذجين الاقتصاديين المهيمنين بعين الاعتبار. وخوفا من توسع الجار السوفييتي، انضمت تركيا لحلف شمال الأطلسي وتدخلت في الصراع الكوري.

وبعد مرور فترة ليبرالية القطاع الزراعي التي طُبّقت خلال حكم الحزب الديمقراطي لعدنان مندريس على مدى عشرية سنة 1950 التي تمتاز بإنشاء نظام متعدد الأحزاب، عادت تركيا للعمل باستراتيجية التنمية المرتكزة أساسا على الصناعة، تحديدا خلال سنوات 1960. وقد تم تأطير قطاع التصنيع عن طريق إرساء خطط تمتد إلى خمس سنوات، حيث يشكل استبدال الواردات المحور الرئيسي للسياسة الاقتصادية. وعموما، ينطوي ذلك على استبدال السلع الاستهلاكية الأجنبية التي تباع في السوق المحلية بسلع أخرى تُنتج محليا في البلاد.

في السياق ذاته، تم ترسيخ رسوم جمركية على ضمانات الدفع الموجهة لعمليات الإنتاج (المنتجات الاستهلاكية)، في حين أن الواردات الأولية من المواد الخام والسلع الرأسمالية الموجهة للصناعات الثقيلة لا تخضع عمليا إلى الضرائب. أما العروض الصناعية التركية، فهي مخصصة للسوق المحلية، بينما تقتصر الصادرات على المنتجات الزراعية.

ولكن، تعد هذه الاستراتيجية أقل تركيزا على نفسها من تلك التي كانت عليها في السنوات الأولى من بداية الجمهورية، حيث أنها ترتكز على توسيع الانفتاح على الواردات في المراحل الأولى من العملية الإنتاجية. وفي نهاية المطاف، تهدف هذه الاستراتيجية إلى جعل العرض المحلي تنافسيا بما فيه الكفاية بهدف بيع المنتجات الصناعية في الأسواق الخارجية.

في المقابل، مُنيت هذه السياسة في تركيا بالفشل كما هو الحال في أغلب البلدان التي طبقتها (ومعظمهم دول من أمريكا اللاتينية)، حيث أن هذه الدول المعنية وقعت رهينة لعملية الإنتاج، كما أنها لم تقدر على الانتقال إلى مرحلة تكون فيها السلع المنتجة محليا قادرة على المنافسة بما يكفي من حيث الجودة والأسعار في الأسواق الدولية.

وقد اقترن هذا الفشل بأزمتين كبيرتين في المواد الأولية، ظهرتا خلال السبعينيات. بالإضافة إلى ذلك، أدى هذا الاعتماد المتزايد إلى عجز في ميزان المدفوعات لدى البلدان التي تطبقه، والتي وجدت نفسها في نهاية المطاف تستورد أكثر بكثير مما كانت تتوقعه في البداية.

ومع ذلك، إذا كانت هذه السياسة فاشلة، فقد نجحت تركيا، من خلال السياسة المعتمدة سنة 1970 بحماية صناعاتها الناشئة، خاصة صناعة سيارات– رينو، التي تعتبر أول مجموعة استقرت في تركيا. وعلاوة على ذلك، نجحت هذه الدولة في تعبئة قوة عاملة قوية لتعزيز الصناعات الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، تم تركيب شبكة من مجموعات تضم الشركات العائلية التي اكتسى حضورها شيئا فشيئا أهمية كبرى في البلاد.

علاوة على ذلك، يجعل أداء هذه التكتلات من الممكن التعامل مع تقلبات عدم الاستقرار السياسي والجيوسياسي. فخلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تميز المجال السياسي التركي بالتناوب بين حزبين في أعلى هرم الدولة، حزب العدالة والتنمية اليميني وحزب الشعب الجمهوري اليساري، من خلال إثبات وجودهما على حساب أحزاب أصغر (من الإسلاميين أو من اليمين المتطرف) وجماعات اليسار المتطرف. وقد تجلت التوترات السياسية مع تعرض البلاد لانقلابين عسكريين.

بشكل عام، لم تعرف تركيا خلال هذا الوقت نفس النجاح المذهل الذي حققته البلدان الآسيوية التي قام اقتصادها على نموذج النمو من خلال صعود الصادرات. في المقابل، أحرزت تركيا تقدما في التنمية بما يتشابه كثيرا مع كل من البرازيل والمكسيك.

تتميز السياسة الاقتصادية في العقدين الماضيين بانفتاح عام. فما هي خصوصيات هذه الفترة تحديدا في المجال الاقتصادي؟

في مطلع الثمانينيات، تغيرت استراتيجية التنمية. ففي ظل قيادة تورغوت أوزال، الذي شغل منصب وكيل وزارة التخطيط، ثم وزير الاقتصاد، ورئيس الوزراء، قبل أن يتولى رئاسة الجمهورية، اعتمدت تركيا على استراتيجية تقوم على تعزيز الصادرات. والهدف من ذلك هو تصدير السلع بأي ثمن وبأسعار منخفضة جدا بفضل مساعدات الدولة (المتمثلة في الدعم على وجه الخصوص) وتحقيق أرباح كبيرة في القطاع الصناعي.

بعد ذلك، يعاد توزيع هذه الأرباح على بقية القطاعات الاقتصادية، لا سيما على القطاع الزراعي بما أن إنتاجيته متدنية. وفي بلد يغلب عليها الطابع الريفي، تهدف هذه الاستراتيجية الاقتصادية إلى التقريب بين دخل سكان المدن ودخل سكان الريف.

وبدعم من سياسة أوزال، حققت تركيا أرباحا على صعيد التجارة الدولية ولكن عملية إعادة التوزيع كانت حساسة للغاية، حيث ساهمت في تجميد المكاسب الناجمة عن نقص السيولة في النظام الاقتصادي. ويعتبر هذا الوضع مشابها تماما لوضعية البرازيل خلال فترة تنحي الرئيسة ديلما روسيف، حيث اقترضت البلاد أموالا من المصارف العامة حتى تتمكن من توفير قروض للقطاع الزراعي بأسعار مميزة جدا، في حين فضلت المصارف الخاصة، بدلا من تمويل الصناعة، إقراض الدولة بأداءات عالية جدا. وبصفة تدريجية، غمرت ديون الدولة كامل الموارد المالية للبلاد، مما تسبب في أزمة مالية كبيرة.

في خضم هذا السياق تولى حزب العدالة والتنمية الحكم. فما هو المنهج الذي تبناه فيما يخص السياسة الاقتصادية؟

خلال سنة 2001، تعرضت البلاد لأزمة اقتصادية كبرى، حيث تجاوز معدل التضخم نسبة 100 بالمئة، كما أصبح الدين يمثّل 78 بالمئة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي. وخلال شهر شباط/ فبراير، تم تعيين كمال درويش، الذي شغل سابقا منصب نائب رئيس البنك الدولي، في وزارة الاقتصاد. ولكن، تمت الإطاحة بالحكومة حتى قبل أن تتمكن من وضع برنامجها الاقتصادي، وهو ما أدى إلى صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وعلى الرغم من أن الحزب الذي يحتل المركز الأول في الانتخابات التشريعية، أُجبر على تأسيس تحالفات مع أحزاب سياسية أخرى بهدف سد النقص الحاصل في عدد الأصوات التي حصدها، إلا أنه لم يلجأ لذلك.

في البداية، لم يكن من السهل على رجب طيب أردوغان أن يقبل بتولي مهام القيادة، نظرا لأنه كان يقضي عقوبة بالسجن بسبب تلاوته لقصيدة. ومع حلول سنة 2002، أطلق سراحه من السجن، وتم انتخابه نائبا على هامش انتخابات فرعية. وفي أعقاب ذلك، عُيّن رئيسا للوزراء

من جهة أخرى، تقف عدة عوامل رئيسية وراء وصول المعتدلين من حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، وعلى رأسها فشل السياسات الاقتصادية في الثمانينيات والتسعينيات والأزمات السياسية المتعددة. ومباشرة بعد توليه السلطة، أعطى حزب أردوغان الأولوية لإنشاء تنظيم داخلي للاقتصاد.

ومن أجل تطبيق هذه الاستراتيجية، اعتمد أردوغان على صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، بالإضافة إلى كون تركيا مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا، التي كانت جزءا من السوق الموحدة للمنتجات الصناعية منذ سنة 1995، قد اعتمدت على جميع المعايير والأنظمة التقنية الخاصة بالاتحاد الأوروبي في هذا المجال.

وعلى الرغم من أهمية هذه الركائز الثلاثة التي تتخذها تركيا كطوق نجاة خارجي لتنمية اقتصادها، إلا أنها غيرت أسلوبها بالكامل. فقد استند أسلوبها الجديد على إضفاء طابع مؤسساتي قوي على الاقتصاد، حيث تلعب شفافية المؤسسات، بفضل سلطات التنظيم الذاتي المنشأة حديثا، دورا حاسما في ذلك.

وفي هذا الصدد، تم إيقاف التعامل بالسياسة التنافسية المتمثلة في تخفيض قيمة الليرة لصالح الصادرات منخفضة التكلفة. بالإضافة إلى ذلك، رفعت الدولة يدها عن إدارة التدفقات النقدية الاقتصادية، وعن مجال الاقتصاد الكلي. وفي الوقت نفسه، أعلن البنك المركزي عن استقلاليته عن خزينة الدولة.

علاوة على ذلك، تم إنشاء هيئات تنظيمية لمراقبة البنك المركزي وباقي البنوك فضلا عن درء المنافسة في الأسواق. لذلك، فإن الاقتصاد المبني على المؤسسات يعتبر شرطا أساسيا من أجل حسن سير النظام الرأسمالي. كما أن هذه العملية كانت تعد بمثابة اللحظة الحاسمة في تاريخ الاقتصاد التركي المعاصر.

وبعد تركيز المؤسسات التنظيمية، دخلت الدولة فيما يسمى "بحلقة من المكاسب". وقد ظهر ذلك مع كبح جماح التضخم المالي وانخفاض قيمة الليرة التركية فضلا عن تنامي الصادرات من حيث القيمة والحجم. بالإضافة إلى ذلك، سجل حزب العدالة والتنمية نقطة إيجابية في تاريخه خاصة وأنه نجح فيما فشل فيه أسلافه، إذ توصل الحزب لتحقيق تقارب بين مداخيل المناطق النائية التي تتركز في الشرق وبين تلك الواقعة في غرب البلاد، حيث كانت التفاوت بينهما عميقًا للغاية.

في الأثناء، شهدت البلاد تحضرا مكثفا، فقد تم إلحاق الأحياء القصديرية التي يسكنها المهاجرون بالمناطق الأكثر تحضرا، حيث أصبحت تعدّ في الوقت الراهن جزءا من الفضاء الحضري خاصة وأن هذه الفضاءات تتصل بشبكات المياه والكهرباء بعد أن استثمرت الحكومة في البنية التحتية.

من جانب آخر، اكتسبت هذه القفزة النوعية إلى الأمام أهمية أكبر لا سيما وأن الجزء الأهم من هذه الاستثمارات تم تخصيصه للنهوض بالمناطق الأكثر فقرا في البلاد، خاصة في المناطق الكردية. وتجدر الإشارة إلى أنه أيضا تم فتح العديد من المدارس والجامعات الجديدة، كما أنه غالبا ما تم دمج التعليم الديني في البرامج الدراسية. وقد ارتفع عدد هذه المؤسسات مع ارتفاع عدد المساجد. وخلال سنة 2008، تم العمل بنظام حماية اجتماعي سخي مع تغطية شاملة للمرض والمعاشات التقاعدية على ضوء ما تطبقه دولة الرعاية الغربية.

لا يمكن إنكار نتائج سياسة أردوغان التي عادت بالنفع على البلاد. فقد حققت السياسة الاقتصادية نتائج هامة أثرت بشكل كبير على الصعيد الاجتماعي من خلال عملية إعادة توزيع ميزانية الدولة بطريقة شفافة. في المقابل، كانت عملية إعادة التوزيع مختلفة خاصة فيما يتعلق بالميزانية المخصصة للبلديات أو بتمويل المؤسسات الكبرى الخاصة التي توزع المساعدات المباشرة على الأسر (مثل توزيع الفحم في الشتاء أو اللوازم المدرسية، وما إلى ذلك).

خلال سنة 2008، تم الانتهاء من المرحلة الأولى من الإدارة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية. فكيف تعاملت تركيا مع الأزمة العالمية التي سجلت سنة 2008؟ وما هي خصائص السياسة الاقتصادية منذ هذه السنة؟

تخطت تركيا بنجاح الأزمة العالمية الكبرى التي حدثت بين سنتي 2007 و2008. وقد نجحت في ذلك بفضل الإصلاحات التي أقدمت عليها منذ سنة 2001، خاصة بفضل إعادة هيكلة نظامها المصرفي. ولكن، خلال سنة 2009، تراجعت صادراتها بصفة جذرية، كما انخفض معدل نمو ناتجها المحلي الإجمالي انخفاضا حادا.

في هذا الإطار، أكملت تركيا سداد ديونها الخارجية، كما رفضت المساعدة المالية التي عرضها صندوق النقد الدولي، والتي كانت تشترط فرض مزيد من الإجراءات في إدارة البلديات، بما أنها تشكل قوة انتخابية مهمة للغاية. وفي الوقت الحاضر، أضحت تركيا قوة إقليمية، ويمكن القول إنها أضحت كذلك قوة عالمية.

بالإضافة إلى ذلك، يتطلع حزب العدالة والتنمية إلى ترسيخ سياسته الخارجية المتمثلة في "صفر مشاكل مع جيرانه"، كما أنه يحاول أيضا أن يجعل من تركيا منطقة ذات تأثير اقتصادي في كل من الشرق الأوسط، وأفريقيا، والجمهوريات الناطقة باللغة التركية في الاتحاد السوفييتي سابقا. ومن جهتها، أبدت تركيا رغبتها في التقارب مع جارتها الإيرانية.

والجدير بالذكر أن هذه الاستراتيجية الجيوسياسية الجديدة جاءت كنتيجة لسوء إدارة ترشح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. فتركيا أرادت فعلا الاندماج في هذا الاتحاد. ولكن هذه العملية كانت طويلة ومعقدة جدا، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي كانت له تحفظات خاصة على الشقّ الديني للبلاد. من جهة أخرى، يمكن أن يخدم منح العضوية لدولة يبلغ عدد سكانها، خلال تلك الفترة، قرابة 70 مليون نسمة، بالإضافة إلى الأهمية التي يكتسبها التعليم فيها، الاتحاد الأوروبي. لكن الاتحاد الأوروبي لا يركز سوى على الثقافة الإسلامية للبلاد على الرغم من أن سياسة تركيا لم تشكل مطلقا أي خطر على الاتحاد.

في الوقت نفسه، واصل الاتحاد الأوروبي توسعه نحو الجنوب الشرقي من خلال دمج اليونان، ونحو الجنوب الغربي من خلال ضم إسبانيا والبرتغال، تليها مجموعة فيسيغراد (سلوفاكيا، المجر، بولندا، وجمهورية التشيك)، ​​قبل أن تنضم إلى الاتحاد تسع دول أخرى، من بينهم رومانيا التي يعتبر اقتصادها أقل قوة من تركيا. ومن جانبها، اعتبرت تركيا أن ما فعلته أوروبا ومماطلتها لإجراءات ضم تركيا إليها بمثابة الإهانة.

ويفسر هذا الرفض الأوروبي سبب رغبة تركيا في البحث عن بديل في أماكن أخرى، تحديدا في البلدان السابقة التي كانت تشكل الإمبراطورية العثمانية. وفي الحقيقة، لا تطمح تركيا إلى التعامل مع هذه البلدان فحسب، بل تتجه أيضا نحو كل من الصين التي تشكل قطبا جديدا للاقتصاد العالمي، وروسيا.

في الواقع، تتعاون القوى الناشئة الكبرى فيما بينها لإرساء أسس نظام اقتصاد عالمي جديد. فبين سنتي 2008 و2014، أعادت تركيا توجيه صادراتها نحو الشرق الأوسط وأفريقيا، وبالتحديد أفريقيا السوداء، بهدف  تتبع شبكات غولن. وعلى العموم، تستثمر تركيا في القارة السمراء في خدمات البنية التحتية، بما في ذلك المدارس التي تعلم فيها لغة البلد ولغة المستعمر السابق. أما بالنسبة للغة التركية، فهي متاحة كخيار آخر جنبا إلى جنب مع اللغتين الأساسيتين، كما يمكن للطلاب الأفارقة الذين يختارون اللغة التركية أن يستفيدوا من المنح الدراسية الجامعية للدراسة في تركيا.

وفي شأن ذي صلة، بدأت تبرز تحديات خارجية جديدة أمام تركيا تحديدا مع رفضها تمويل صندوق النقد الدولي والابتعاد أكثر فأكثر عن الانضمام للاتحاد الأوروبي. من جانب آخر، أكدت الحكومة أنها ضمن محور قريب من مناطق نفوذها، حيث أن هذا المحور يناقض تماما محورها الغربي السابق. سجلت تركيا في السنوات الأولى بعد سنة 2010 معدلات نمو قريبة من تلك التي حققها الاقتصاد الصيني.

ما هي التطورات الداخلية الأخيرة التي غيّرت الوضع الاقتصادي للبلاد؟

خلال سنة 2014، وبعد توليه لولاية ثالثة كرئيس للوزراء، تم انتخاب أردوغان رئيسا للجمهورية بالتصويت عبر الاقتراع العام، وهي سابقة في تاريخ البلاد. بعد ذلك، انتخب الرئيس من قبل البرلمان. انتقل أردوغان صوب المؤسسات التمثيلية لكي يتوجه بالخطاب مباشرة لرؤساء البلديات القرويين الذين كانوا غير مؤهلين للترشح للانتخابات. وقد خصصت الجمعية الوطنية جانبا مما أقره أردوغان، الذي رسخ، بحكم الأمر الواقع، إدارة قائمة على الديمقراطية المباشرة.

في المقابل، لا ترضي هذه الطريقة في الحكم الجميع. تعرضت البلاد إلى هزة إثر احتجاجات "منتزه غيزي" على الرغم من أن الرئيس كان يحظى بتأييد الجميع داخل معسكره.

في سياق آخر، قاد الغولونيون خلال شهر تموز/ يوليو سنة 2016 محاولة انقلابية. وفي الوقت الذي تعيش فيه البلاد تحت حالة الطوارئ منذ صيف سنة 2016، تم إجراء استفتاء في خصوص تغيير النظام السياسي في البلاد خلال شهر نيسان/ أبريل سنة 2017. وبغض النظر عن النتائج المتقاربة بين الذين صوتوا "بنعم" والذين صوتوا "بلا"، إلا  أن النظام الرئاسي تم ترسيخه فعليا في تركيا.

في السياق ذاته، أدت محاولة الانقلاب التي وقعت في شهر تموز/ يوليو سنة 2016، إلى إلحاق أضرار جسيمة بالبلاد، خاصة وأن الأسباب التي تقف وراء العمليات العسكرية وكيفية سيرها ظلت مبهمة. من ناحية أخرى، رافقت هذه التحركات عمليات تطهير شملت موظفي الخدمة المدنية والعسكر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الآثار المترتبة على عمليات التطهير هذه مست من الاقتصاد. وفي هذا الإطار، تمت إعادة مناقشة مفهوم الملكية، وهي فكرة أساسية راسخة في الاقتصاد الرأسمالي. وقد أخضع عدد كبير من أهم الشركات في البلاد تحت إشراف إداريين.

ولمعالجة مشاكل السيولة الناجمة عن نقص في الاستثمار في البلاد، قررت الحكومة وضع أكبر ثروات البلاد في صندوق ثروة سيادية، على غرار السدود والجسور أو شركات مثل الخطوط الجوية التركية. ويعني ذلك أنه بمجرد وضعها في صندوق ثروة سيادية، يمكن شراء أسهم هذه الثروة في السوق من قبل أي شخص كان.

ما هي القضايا الجيوسياسية التي واجهتها تركيا منذ سنة 2002، والتي يمكن أن تعيق مسارها التنموي؟

على الصعيد الجيوسياسي، يختلف وضع تركيا مقارنة بجيرانها. أما على الصعيد الاقتصادي، فتعكس الفترة الممتدة من سنة 2000 إلى غاية سنة 2010، فترة النمو المزدهر لجميع البلدان الناشئة. وقد سدت جزئيا هذه الدول الفجوة الحاصلة في عائداتها من خلال الاعتماد بشكل خاص على الانطلاقة الاقتصادية للصين التي لا تستورد فقط من البلدان الناشئة المواد الخام، ولكن تستورد أيضا المزيد من المنتجات الصناعية.

بالتالي، تصدرت الصين الترتيب العالمي. ومن جهتها، استفادت تركيا من موقعها كوسيط جغرافي بين قارة أوروبا وآسيا. أما بالنسبة لدول على غرار تركيا وروسيا، فهما تنتميان إلى ما تسمى بكتلة أوراسيا التي تكتسي أهمية في ظل إعادة توجيه العولمة.

علاوة على ذلك، كانت تركيا مقربة من روسيا أو إيران إلى حدود سنة 2011، حيث يعتبر هذان البلدان مُنتِجان هامّان للمواد الخام التي تستطيع تركيا، باعتبارها بلدا صناعيا، القيام بعملية تحويلها. ولذلك، تكمل هذه الاقتصادات بعضها البعض.

ومع اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011، اضطرت تركيا إلى أن تأخذ بعين الاعتبار الوضع الجيوسياسي الجديد الذي تزامن مع فرض عقوبات على موسكو. والجدير بالذكر أن كلا من أنقرة وطهران لم تتواجها عسكريا منذ القرن الثامن عشر، كما أنهما تحافظان على تبادل العلاقات بينهما التي لم تؤثر فيها كثيرا الصراعات العربية، على الرغم من الاشتباك بين الجيش السوري الحر، الذي تدعمه تركيا، والنظام السوري المدعوم من إيران.

وأمام حالة عدم الاستقرار التي خلفتها الحرب في سوريا، وجهت تركيا من جديد صادرتها نحو أوروبا، بنسبة تجاوزت 50 بالمئة من مجمل صادرتها. بالإضافة إلى ذلك، نجحت تركيا في إدارة تدفق اللاجئين الوافدين من سوريا، حيث تستقبل قرابة ثلاثة ملايين سوري فروا من الصراع الدائر في بلادهم.

وعلى الرغم من الأخذ والرد بين بروكسل وأنقرة حول قضية اللاجئين، إلا أن تركيا قد تكفلت فعلا بهؤلاء الأشخاص.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!