
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والمفكر التركي سلجوق تورك يلماز، التحولات الفكرية التي شهدتها تركيا بعد محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016، باعتبارها نقطة فاصلة أعادت تشكيل الوعي السياسي والثقافي في البلاد.
يناقش الكاتب - في تقريره بصحيفة يني شفق - كيف انعكست هذه التحولات على اللغة والخطاب العام، وعلى طريقة تعامل النخب مع مفاهيم الدولة، الهوية، والعلاقات مع الغرب.
كما يسلّط الضوء على استمرار بعض الثنائيات الفكرية التقليدية مثل الصراع بين العلمانية ومناهضتها، مقابل بروز توجه جديد يسعى إلى تجاوز الانقسامات القديمة وبناء رؤية فكرية أكثر استقلالاً وتوازناً مع الدور السياسي المتصاعد لتركيا إقليمياً وعالمياً.
وفيما يلي نص التقرير:
من الصعب جداً تقديم إجابة واضحة ومحددة عن سؤال: ما هو نوع التغيير الذي طرأ على عالمنا الفكري بعد 15 يوليو 2016؟ في المقابل، يمكننا سرد العديد من العناصر التي تمنح هذا السؤال أهميته. ولعل من يستطيع النظر إلى هذا السؤال ببعض البعد والحياد سيقدم إجابات أكثر صحة. ولكن حتى بالنسبة لهذه، أعتقد أن تسجيل التغيرات الفردية أمر بالغ الأهمية. إذ إن انعكاسات حدث عظيم كهذا على عالمنا الفكري أهم بكثير من الحركة السياسية والبيروقراطية من حيث النتائج الدائمة. وعلاوة على ذلك، فإن الحراك على مستوى الدولة لتجديد نفسها أصبح واضحاً للعيان. وأود التأكيد بشكل خاص على أنني أقوم هنا بالمقارنة بين البنى التنظيمية.
إن انعكاس التغيرات على المستوى الفكري في اللغة أمر لا مفر منه. وعندما نُقارن المواضيع التي نُوقشت والمناهج المُتبعة أعتقد أننا نستطيع لمس الفروقات بين الفترة التي سبقت انقلاب 15 تموز/يوليو وما بعدها. وهذا هو ما أعنيه بـ "النظر من بعيد" بعض الشيء. على سبيل المثال، عند تقييم علاقاتنا مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، يُمكننا تحديد اللغة والنظرة السائدة قبل 15 تموز/يوليو، ويمكن أيضاً تطبيق هذا على علاقاتنا مع الغرب ككل. وعندما نركز على الفروق بين فترات العشر سنوات، أو بعد 12 أيلول، أو بعد غزو العراق، أو بعد انقلاب 28 شباط، ونقارنها بعهد أردوغان، يمكننا حينها إجراء مقارنات أكثر موضوعية. ولكن هذا يتطلب الابتعاد عن الأجندة السياسية اليومية. كما يمكن تقسيم فترة أردوغان نفسها إلى مرحلتين: ما قبل 15 تموز/يوليو وما بعده، مما يوفر إمكانية تقييم أكثر صحة. ويمكننا التركيز على هذا التغيير من خلال نهجنا تجاه قضايا المنطقة المُجاورة لنا.
وتعد النقاشات الداخلية مهمة أيضاً لتحديد الفروقات بين ما قبل 15 تموز/يوليو وما بعده، ولكن يجب توخي الحذر في هذا السياق. فالصراع الثابت بين العلمانية ومناهضة العلمانية في تركيا لا يزال موجوداً بنفس اللغة والنظرة. ومن يركز على هذا الصراع لتحديد الفروقات بين ما قبل وما بعد 15 يوليو سيُصاب حتماً بخيبة أمل، وقد يضطر إلى إنهاء عمله لعدم تمكنه من رصد أي تغير. وللأسف فإن عدم وجود أي تغيير في أجندة تلك الأوساط، رغم تغير العصور يُعد خسارة للعالم الفكري. فالأجندة التي تتأرجح بين “عيون أتاتورك الزرقاء” و”فقدنا كل شيء بعد إلغاء الخلافة” تستمد كل حيويتها من قوة التكرار. علاوة على ذلك، فإن الأطراف في هذا الصراع هي بُنى غير متبلورة، ويجب أن نشير إلى أن البنى غير المتبلورة قابلة للاستغلال بشكل كبير. ولأنها لا تشكل أي نموذج محدد، فإن الشخص العادي الذي ينضم إلى أحد الأطراف لن يكتسب القدرة على التفكير بطريقة أو بأخرى عند تقييم الأحداث.
ويعدّ تنظيم"غولن" الإرهابي، الفاعل الرئيسي في أحداث 15 يوليو 2016، مثالاً جيدا لفهم البُنى غير المتبلورة. وقد تميز منذ بداية نشأته، بمعاداة أتاتورك. وكانت الأساطير المنسوجة حول زعيم التنظيم الإرهابي ذات قيمة كبيرة من حيث شموليتها. وكانت هناك إشاعة قوية داخل التنظيم مفادها أن تاريخ ميلاد زعيمهم هو 10 نوفمبر (تاريخ وفاة أتاتورك). ولا أعلم إلى أي مدى استمروا في الترويج لذلك، لكن من الواضح أنهم استمدوا قوتهم من معاداة الكمالية. كان هناك أتباع "غولن" الإرهابي من جهة، والعلمانية من جهة أخرى. وعندما كان الصراع بينهما يتصاعد أحياناً، كانت الأطراف غير المتبلورة تصبح أكثر شمولية، وتخفّ حدة ميول العناصر المختلفة. أما من اكتشفوا زيف هذا الصراع، فلم ينجوا مع مرور الوقت من العزلة.
واليوم علينا أن ندرك أن تركيا ومنطقتنا يمران بتغير هائل يشارك فيه العالم بأسره. وفي خضم هذه العملية، أصبحت تركيا منخرطة في الأحداث بمستوى لا يمكن مقارنته بتركيا القرن العشرين. ويشير ذلك إلى أن الوقت قد حان لترك بعض أحداث تاريخنا للماضي، وبالتالي يجب أن نحرر آراءنا حول تاريخنا من أبعادها النفسية. فالخطوات التي تخطوها تركيا اليوم يتردد صداها في جميع أنحاء العالم تقريباً، ومن ثم، يجب أن يكون لنا حضور فكري في الأماكن التي نتواجد فيها سياسياً. إن أوجه التوازي بين التأثير الذي تحدثه سياستنا وقوة جيشنا لافتة للنظر للغاية. لقد حان الوقت للنظر إلى تاريخنا من زاوية مختلفة؛ فالمواضيع التقليدية مثل "أين أخطأنا؟" أو "القضايا الأساسية للعالم الإسلامي" لم تعد تُخبرنا الكثير. ويمكن القول إن الدراسات التي تركز على المشاكل التي أنتجتها الحضارة الغربية وأوروبا والدول الأنجلوساكسونية ستفتح آفاقاً جديدة من الرؤية والتفكير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!










