د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

احتل الفرنسيون الجزائر عام 1830م وانتهجوا فيها سياسة استعماريّة قاسية. وتروي الكتب والوثائق أشكالا مختلفة من الهمجيّة والبربرية التي مارسها المحتلون الفرنسيّون هناك من تقتيل وتشريد وتغيير للهويّة وهدم للمساجد وانتهاك للحُرمات وغيرها. 

وكان أعنفها وأشدها ما حصل في خمسينيات وستينيات القرن العشرين إبان اندلاع ثورة التحرير والتي تُوّجت بالاستقلال عام 1962م.

ونظرا للتّضييق الشّديد الذي كان يُعانيه الشّعب الجزائري منذ بداية الاحتلال اضطر الكثيرون إلى الهجرة والانتقال إلى مناطق مختلفة من الأراضي العثمانية، فمنهم من هاجر إلى تونس المجاورة ومنهم من هاجر إلى طرابلس الغرب، ومنهم هاجر إلى اسطنبول، ومنهم من هاجر إلى بلاد الشام.

ونركّز في هذه المقالة على المهاجرين الجزائريّين في لبنان وتحديدًا في مدينة عكا وأعداهم والمساعدات التي كانت تقدم إليهم، وكيفية تعامل السّلطات العثمانية معهم، والشّروط التي طُلب منهم الالتزام بها لمنحهم الجنسيّة العثمانيّة.

فقد ذكر تقرير مرسل من نظارة (وزارة) الداخلية إلى نظارة المالية مؤرخ بتاريخ 11 محرم سنة 1309 هــ/17 أغسطس سنة 1891م أن 248 مهاجرًا قدمُوا من جزائر الغرب إلى مدينة عكا وأنّه تم إسكانهم وتخصيص مبلغ يوميّ لمائة منهم قدره ستون بَارَه.

وإلى جانب المساعَدات الماليّة التي كانت تقدّم لهؤلاء المهاجرين، تمّ كذلك منح عددٍ منهم أراضي للسّكن والاستقرار فيها، وكانت الأولوية لمن يكون وضعهم المادّي صعبًا وعدد أفراد أسرهم كبيرا.

وكمثال على ذلك أُعطي المدعوّ الحاج عبد الرّحمن الذي كان سابقًا موجودًا في الحجاز ثم انتقل إلى عكّا قطعة أرض للإقامة فيها، وقد كان يُعاني من فقر شديدٍ، وذكر أنّه في حاجة ماسّة للمُساعدة، واستجابت السلطات العثمانية في عكا لطلبه.

وتذكر وثيقة أخرى صادرة عن الباب العالي (رئاسة الوزراء) بتاريخ 9 محرم سنة 1311 هــ/ 23 يوليو سنة 1893م أن 150 من الجزائريين بين إناث وذكور قد وصلوا إلى بيروت، وأنهم قبلوا التبعية العثمانية وأنه سوف يتم توطينهم في بعض القرى في قضاء طبرية التابع لمدينة عكا في أراض ميريّة مساحتها نحو 5 آلاف دنم، شأنهم شأن مهاجرين آخرين كانوا قد قدموا من بلاد المغرب في وقت سابق وتم إسكانهم.

وقد مُنحوا الجنسية العثمانية وفقا لقرار صادر من مجلس الوزراء، بعد أن درس المجلس الطلب المقدّم من قبل المواطن الجزائري محمد بن سالم والذي التمس فيه السماح لهؤلاء المهاجرين البالغ عددهم 150 فردا  والذين يشكلون 24 عائلة بالسكن في لبنان.   

   ومن الطبيعي أن تقوم السّلطات في لبنان بالتّدقيق في هويّات القادمين قبل إسكانهم بشكل نهائيّ لتعرف كيف قدموا إلى هذه المناطق، ومن منهم يحمل جواز سفر ، ومن منهم بلا أيّة هويّات، وكيف يمكن التّحقق من كونهم مازالوا تحت الحماية الفرنسية أم.

ولذلك فقبل أن تقبل الحكومة توطينهم طلبت رئاسة الوزراء في اسطنبول من ولاية بيروت الاتصال بالقنصليّة الفرنسية هناك والتأكّد من أن أسماء هؤلاء المهاجرين غير موجودة في دفاتر القنصليّة ولا يستفيدون من أيّة خدمات من قبل السّلطات الفرنسية.

وبعد التحققّ من أن أسماءهم غير موجودة وأنهم لا يتلقّون أي دعم أو مساعدة من القنصلية الفرنسيّة  تمّت المصادقة على القرار

من قبل كلّ من الصّدر الأعظم وشيخ الإسلام والسّر عسكر وناظر العدلية وناظر البحرية وناظر الخارجيّة وناظر الدّاخلية وناظر المالية  وناظر الأوقاف وناظر المعارف وناظر التجارة والنافعة وغيرهم.

وإذا نظرنا في الدّفتر الذي يحمل أسماء العَائلات التي قدمت إلى لبنان نلاحظ تفاوتًا في عدد أفرادها، فبعض العائلات تحتوي على فردين فقط، بينما تحتوى أخرى على 7 أفراد، وأكثرها عددًا تحتوي على 12 فردًا.

وقد جاء التّقرير المقدم من خليل خالد والي ولاية بيروت إلى الصدارة العظمى في اسطنبول مفّصلا حيث احتوى على خمس خانات ذُكرت في الخانة الأولى أسماء رؤساء العائلات، وفي الخانة الثانية ذكر عدد الأشخاص من الذكور، والخانة الثالثة عدد الأشخاص الإناث، وفي الخانة الرابعة المجموع، أما الخانة الخامسة فتحتوي على ملاحظات تتعلق بما إذا كان هؤلاء الأشخاص يحملون جوازات سفر  فرنسية أم لا.

فبعض هؤلاء احتفظوا بجوازات سفرهم معهم، وبعضهم الآخر قام بإتلافها خشية أن ترفض السّلطات العثمانية إيواءهم إذا وجدت بحوزتهم. 

فأسرة الشّيخ الشّريف مثلا لا تملك جوازات سفر، وكذلك أسرة محمد السّليمان وأسرة السعيد أمزيان، وعلي الحاج السعيد، وعمار بن محمد بن سالم، ومحمد بن علي بن سالم وغيرهم.

بينما هناك أسر أخرى تملك جوازات سفر فرنسيّة مثل أسرة عمار الحاج فبحوزته جواز سفر مؤرخ بتاريخ 20 مارس سنة 1888م، ومحمد العطوي بحوزته جواز سفر مؤرخ بتاريخ 4 أغسطس سنة 1887م، ومحمد و السليمان الحسين بحوزته جواز مؤرخ بتاريخ 4 أغسطس سنة 1887م، ومحمد أحمد الطيب بحوزته جواز سفر مؤرخ بتاريخ أغسطس سنة 1890م.

وكما هو ملاحظ فإنّ السّلطات العثمانيّة قامت بالتّحقيق اللازم مع ولاية بيروت والقنصلية الفرنسية هناك بخصوص هؤلاء القَادمين قبل إسكانهم وتوطينهم في الأراضي المخصصة لهم.

ولم تسارع إلى رفضهم دفعة واحدة أو قبولهم بلا دراسة وتمحيص.

وبمنحهم جوزا السفر العثماني أصبحوا مواطنين عثمانيين خاضعين للقوانين العثمانية شريطة عدم التعامل مع الجهات الفرنسيّة أو التّواصل معها بأي حال من الأحوال باعتبار الوضع القائم في الجزائر، وكون فرنسا سلطة احتلال.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس