ترك برس

هو ابن "برهان الدين"، الابن الأصغر للسلطان "عبد الحميد الثاني" المُحبّب إلى قلبه والأقرب إليه والذي لم يفارقه حتى بعد إسقاطه عن العرش في عام 1909، إلى أن توفّي بعد 3 سنوات. وُلِد عثمان ابن أرطغرل في عام 1912 في قصر يلدز بإسطنبول، وكان عمره 6 أعوام عن وفاة جدّه.

نفي الأسرة العثمانية خارج البلاد

في الساعة التاسعة مساءً من منتصف شهر آذار/ مارس 1924، رست أكبر سفينة ركّاب أجنبية "يوليوس قيصر" (Julius Caesar) في مرفأ سيركجي لنقل الأمراء والأميرات وأبنائهم البالغ عددهم 150 فردًا من الأسرة الحاكمة العثمانية إلى خارج الحدود التركية، بأمر من الجمهورية التركية الجديدة التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط الدولة العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

نُفِيَ الجميع بلا وثائق، وأُعطي كل فرد منهم ألف ليرة إنجليزية لم تكن تكفي لإيصالهم إلى مكان والاستقرار فيه. تخلّفت إحدى الأميرات عن الحضور لمرضٍ ألَمّ بها، فأُعطيت مهلة أسبوع للتعافي والالتزام بالمغادرة.

150 منفي من الأسرة الحاكمة تبعثروا في أرض الله الواسعة يُطاردهم الفقر والعوز والمرض. وعلى الرغم من أن بعضهم حالفهم الحظ، إلا أن آخرين أصيبوا بالجنون، ومنهم من حملوا أكياس الصابون على أكتافهم متجولين على المنازل في باريس، أو حرسوا القبور ليلًا ليحصلوا على لقمة عيشهم، بينما تنتظر الأميرات حلول المساء لحمل سلال الورد والتجول في باريس لبيعها.

الأحفاد في المنفى

حالف بعض الأحفاد الحظ بإتمام دراستهم والعيش بكرامة، وآخرين سعوا وراء لقمة عيشهم في أصعب الأعمال والمهن. تعلّم الشيخ زاده "أورهان عثمان أوغلو"، أحد الأحفاد، اللغة العربية خلال استقراره في سورية مع أسرته، ثم جاء كدليل سياحي يُعرّف بقصور أجداده في تركيا "توب كابي سراي" و"تشيراغان"، وهو يخفي هويته سعيًا وراء لقمة العيش.

هكذا أصبح حال الأسرة الإمبراطورية التي حكمت 40 دولة لأكثر من 600 عام، نٌفي أولادها وأحفادها في الدول الأوروبية، لا يعرف أي منهم كلمة تركية واحدة، ولا يعرف أحدهم الآخر.

روى الإعلامي التركي "محمد بارلاص" حادثة عن تقطّع الأسرة وتباعدها في غربتها قائلًا: "التقى رجلان في معرض لبيع اللوحات الزيتية، وتنافسا على شراء لوحة لأحد الأمراء. فاز أحدهم بامتلاكها فاقترب الآخر منه يهنّئه ويدعوه للتنبّه للرسم وقيمته، فهو رسم جدّ من أجداده من السلطنة العثمانية، فسارع الثاني لمعانقته قائلًا: "إنها صورة لجدّي أيضًا، لم أكن لأتنازل عنها بسهولة مقابل مئات الدولارات".

عثمان ابن أرطغرل في المنفى

لم يكن عثمان في تركيا عندما نفيت الأسرة العثمانية منها، بل كان خارج البلاد، وعاش في المنفى مع أسرته بدءًا بفيينا عاصمة النّمسا.

درس عثمان العلوم السياسية في باريس، وظل بعيدًا عن ممارستها ومتابعًا لها، ورفض الكثير من العروض المغرية قائلًا: "لن أكون جزءًا من أي مخطط يلحق الضرر بتركيا وسمعتها".

توفي والده "برهان الدين" سنة 1949، وأوصى بدفنه في إسطنبول. رفضت الحكومة دفنه في تركيا، فنقلت الجنازة إلى دمشق لتأخذ مكانها بين الكثير من الأمراء والأميرات الذين استضافتهم سوريا.

الجنازة الأكثر ألمًا

عندما توفي الشيخ زاده "محمد أورهان عثمان أوغلو" في مدينة نيس الفرنسية، لم تجد زوجته أحدًا يرفع النعش فاستعانت بأربعة من التونسيين المغتربين، حملوه وصلّوا الجنازة عليه، ودفن في مقبرة مختلطة لغرباء المدينة.

عفو عن الأسرة العثمانية

في عام 1974 صدر قرار عفو عن الأسرة العثمانية من السلطات التركية، وتمّت إعادة الجنسية التركية لهم والسماح لهم بالعودة إلى تركيا.

لم يفرح "أرطغرل" بالعفو، لأنه شمل عفوًا عن السجناء المتّهمين بجرائم وسرقات، ولم يقبل أن يوضع ضمن هذه القائمة. وقال: "أنا لم أرتكب أي ذنب حتى يصدر قرار العفو عني، فليست الوثيقة من تقرر إذا كنت تركيًا أم لا"

وظلّ "أرطغرل" مقاطعًا للقرار حتى عام 1992 حين زار تركيا للمرة الأولى بعد 60 عامًا قضاها في المنفى. حتّى التقى كلًا من الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، والرئيس التركي السابق عبد الله غُل، اللذين أقنعاه بالعودة إلى تركيا للاستقرار فيها.

"أرطغرل" يستلم جواز سفر تركي لأول مرة في حياته

عندما سلّمه موظّفو الأمن جواز سفره التركي في عام 2004، قال "أرطغرل" ممازحًا: "لم أكن أعاني من أي أزمة نفسية، وكنت أعيش بدون هذا الجواز، لكنّني لم أشكّك يومًا في تركيّتي وانتمائي وهويتي، حتى ولو لم تُردّ إلي هذه الوثيقة".

وعاش "أرطغرل" بجنسيته التركية خمس سنوات فقط، رفضًا اقتراحات الكثير من الدول الغربية والأوروبية لمنحه جنسيتها.

جولة "أرطغرل" في قصور أجداده

كان "أرطغرل" يتجول برفقة زوجته في قصور أجداده وهو يخفي هويته. وفي أثناء جولته بقصر "دولما بهتشه" شدّد عليه أحد الحراس مطالبًا إياه بالالتزام بقواعد التنقل بين الأجنحة، فغضبت زوجته وقالت للحارس مُنبّهةً: "تطلب ذلك من حفيد عثماني عاش داخل هذا القصر؟!"، فسارع الحارس للاعتذار وأبلغ المدير الذي اصطحبه هو وزوجته في جولة تفصيلية مطوّلة.

وصيّة "عثمان بن أرطغرل" أن يدفن إلى جانب جدّه

رغب "أرطغرل" في أثناء مرضه بأن يدفن إلى جانب جدّه "عبد الحميد الثاني"، فوافقت حكومة حزب العدالة والتنمية على رغبته، وتوفي في عام 2009 بإحدى مستشفيات إسطنبول.

جنازة مهيبة لآخر وريث للدولة العثمانية

احتشد آلاف المُكبّرين على مدخل جامع السلطان أحمد القريب من مدافن كبار بني عثمان.

وغطّت الأعلام نعش "أرطغرل"، وأجريت طقوس ومراسم تشييع أمير عثماني. حصل له ما لم يحصل عليه الأمراء والأميرات الآخرون الذين توفّوا منفيّين في الغربة دون أن يعرفهم أحد، ودفنوا في أكثر من عاصمة أوروبية.

كبار رجال الدولة يشيّعون "أرطغرل"

شارك في تشييعه 5 وزراء تسابقوا على رفع نعشه على الأكتاف، كما كلّف رئيس الجمهورية في ذلك الحين "عبد الله غُل" الأمين العام لقصر الرئاسة بتمثيله في الجنازة.

أما الرئيس التركي الحالي، رئيس الوزراء في ذلك الحين، رجب طيب أردوغان الذي كان خارج البلاد في أثناء الجنازة، فما إن وطئت قدمه أرض البلاد سارع إلى تقديم التعازي بوفاة "أرطغرل".

نائب رئيس الوزراء التركي "جميل تشيشك" قال خلال مشاركته في التشييع: "نحن مدينون بالكثير مما نحن عليه اليوم إلى هذه السلطنة، ونعرف سلاطين سارعوا عندما شعروا بقرب نهاية حكمهم إلى تكديس الأموال وحملها معهم، لكن آل عثمان ظلوا بعيدين عن ذلك، وفضّلوا حياة العَوَز على حمل أموال الشعب التركي".

وأضاف: "بدلًا من أن يصبح "عثمان الرابع" أو "أرطغرل الأول"، نُفي (أرطغرل) مع أسرته إلى خارج البلاد، عاش حياته بلا هوية ولا وثيقة سفر، لم يهتم كثيرًا وقال أكثر من مرة: الجميع يعرف من أنا، وأنا أعرف نفسي أكثر من الآخرين".

المؤرخ "مراد برقش" قال في هذا الموقف: "من سخرية القدر أن يأتي إلى الدنيا في قصر السلطنة، وأن يمضي آخر أيامه في شقة تبعد مئات الأمتار عن هذا القصر، استأجرها ليسكن فيها مع زوجته بعد قرار الاستقرار في إسطنبول بعد غربته وتنقله بين أمريكا وكندا وباريس".

وبذلك طويت صفحة جديدة من صفحات عزّ المسلمين ومجدهم بوفاة آخر وريث للدولة العثمانية. وإن كانت طويت من قبل بسقوط الخلافة العثمانية في عام 1924، لكن وفاة الأمير "عثمان بن أرطغرل" كأنها كانت نهاية تلك الدولة المجيدة.

مؤخرًا، قدّمت أسرة عميد السلالة العثمانية الأمير "دوندار عبد الكريم عثمان أوغلو" البالغ من العمر 87 عامًا طلبًا للسلطات التركية لإحضارهم من دمشق إلى إسطنبول. فتلقّت السفارة التركية في بيروت تعليمات مباشرة من الرئيس أردوغان لتسهيل عملية خروجهم من دمشق إلى إسطنبول عبر الأراضي اللبنانية. ووصل الأمير مع أسرته إلى إسطنبول في آب/ أغسطس 2017.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!