طالب الدغيم - خاص ترك برس

شكلت الزحوف الصليبية من أوروبا باتجاه العالم الإسلامي، لحظة حاسمة في تاريخ البشرية، وظاهرًة شغلت مجالًا واسعًا من المتخيل الشعبي العربي والإسلامي من جهة، وتناولتها أقلام الكتاب الغربيين والعرب بحثًا وتحليلًا بغزارة من جهة أخرى. وقد كانت البداية الفعلية للحروب الصليبية في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1095م، وذلك على أعقاب الخطبةِ التي ألقاها البابا أوربان الثاني في حشود المجتمعين بمؤتمر ديني في حقول مدينة كليرمونت الفرنسية. وقد وصل عددها لنحو ثمانية حملات عسكرية بين تاريخ أول حملة عام 1096 و1291، وهو العام الذي سقطت فيه مدينة عكا آخر الإمارات الصليبية في المشرق. وقد تركت تلك الحملات صورةً نمطيةً في تاريخ العلاقة بين الغرب والمشرق العربي على وجه التحديد. فلم كانت سفن طروادة الحافز الحقيقي وراء الموجات الصليبية؟ وهل شحنتها غايات دينية أم غايات أخرى كانت أكثر أهمية وتأثيرًا؟

ـــ الأسطورة والمقدس وراء الحملات الصليبية

قبيل انطلاق الحملات الصليبية، كان للكنيسة الكاثوليكية سيطرة تامةً على مجريات الأمور في أوروبا. حيث كان رجال البابا يعملون على نشر الشائعات، ويُوهمون الناس بأن الدنيا على وشك الانتهاء، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح. وفسروا الظواهر الكونية والطبيعية بأنها أدلة على اقتراب يوم القيامة، ومن ذلك على سبيل المثال، ثورة بركان فيزوف في إيطاليا، وحدوث الصواعق والفيضانات. فكان لانتشار تلك الشائعات الأثر الواضح في إحداث الهلع في نفوس الأوروبيين، فضرب رجال الدين على هذا الوتر لتحريك الناس كما يريدون.

في كتابه الحروب الصليبية، حاول المؤرخ اللاتيني وليم الصوري(ت:1185م) أن يُقدم تبريرًا للحملات، برسمه صورة العدو (البعيد) المختلف عقائديًا، وذلك بإعطائه صفاتٍ تتردد بين الكفر والبربرية، معتمداً على خطاب البابا الموجه ضد المسلمين. ورأى الصوري بأن حملات أجداده جاءت لإنقاذ بيت المقدس من ظلم المسلمين وعسفهم. ويعزز رأيه بذكر أفعال الأتراك السلاجقة الذين دخلوا مدينة أنطاكية، وقاموا بتدنيس الكنائس قبل ذلك الوقت، فيقول:" كان الأتراك قد حَولوا بعض الأماكن المقدسة إلى اسطبلات للخيل".

يوافق كلام الصوري كُتاب آخرون ذكروا الفظائع التي قام بها جنود الحملات، فها هو الفارس الصليبي ريمون داغويليه يصفُ مذبحةً واحدةً ارتكبت بحق المسلمين في القدس في الحملة الصليبية الأولى، بقوله:".. وشاهدنا أشياءَ عجيبة، إذ قُطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين.. وظل بعضهم يُعذَّبون عدة أيام، ثم أُحرقوا في النار، وقد كان حُكماً إلهياً عادلاً، ورائعاً أن يَمتلئ المكان بدماءِ الملحدين"، وتلك الشهادات جعل كثيرين يلحون على العامل العَقدي لتلك الحروب.

ولكن المؤرخ الأمريكي توماس مادن، رأى في كتابه "تاريخ موجز للحملات الصليبية" بأن تلك الحملات كانت شيئاً مختلفًا تمامًا، وبعيدة عن كونها حروبًا دينية. ففي المسيحية، منذ بدايتها، حُظر الإيمان القسري، وهي خلافاً للجهاد عند المسلمين، فلم يكن الغرض منها هو توسيع نطاق أراضي العالم الديني المسيحي، ويقول: "يجب ألا ننسى بأن الحملات كانت رد فعل، في وقت متأخر نوعاً ما"، وهو يقصد ردًّ على الغزوات الإسلامية في اسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا.

وتجدر الإشارة، بأن المسلمين المعاصرين للحملات سموها بحروب الفرنجة؛ لأن تلك الحملات خَطَّطَ لها أمراء الإقطاع في فرنسا بالتعاون مع البابوية. وأما مصطلح الصليبية أطلقه باحثون غربيون في بداية القرن الثامن عشر الميلادي، فسموها "الحروب الصليبية cross war" أو "المقدسة Holy "، ولعلهم أرادوا بذلك تمييزها عن باقي الصراعات، لأنها رفعت الصليب شعاراً لها، أو ربما قصد بها بعض الكتاب المستشرقين، بأنها بمثابة حرب انتقام من المسلمين في أراضيهم.

ـــ الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية للحملات الصليبية

لا يمكننا فِهم أهداف الحروب الصليبية ودوافعها بدون اطِّلاع حقيقي على الحياة التي كانت تعيشها أوروبا في ذلك التاريخ. فقد حدثت في السنوات العشر التي سبقت الحروب كوارث طبيعية ومجاعات قاتلة، ولا سيما في شمال فرنسا وغرب ألمانيا، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من جموع الفلاحين والأقنان من تلك المناطق، إذ كان لا بد لهم من موطن فيه طعام وشراب. وأينما كان ذلك الموطن، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا.

ففي تلك المرحلة، هيمن نظام الفيودالية (الإقطاع) على مجتمعات أوروبا، وكان الفلاحين يعانون من بطش الأمراء الاقطاعيين، وذلك ولَّد لدى الفلاحِ الذي يُباع في حقله شعوراً بالحقد على مُلاّك الأراضي. وبالتالي لم يكن لهم فرصةً للخروج من أزمتهم إلا بالانتقال الجماعي نحو الشرق بحثاً عن حياة أقل شقاوة وأوفر رزقاً، ولذا سميت الحملة الصليبية الأولى بحملة الفقراء.

يعطينا المؤرخ الإنكليزي ستيفن رنسيمان في موسوعته الحروب الصليبية أبعاد أكثر قوة من الأبعاد الدينية للحروب، ويستحضر بذلك عبارات البابا في مؤتمر كليرمونت عندما دعا للاستيلاء على ثروات المشرق الغنية. بالقول:" لا تدعو شيئاً يقعد بكم، ذلك أن الأرض التي تسكنوها الآن ضيقةً على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً.. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها بل هي فردوس المباهج ". فالبابا أثار شهية المشاركين بالحملات لتحقيق غاياتهم الدنيوية والأخروية، وكأنه يَعدهم بنعيم لا يزول.

ولعل ما يخدم هذا الطرح رؤية المفكر اللبناني أمين معلوف في كتابه "الحروب الصليبية كما رآها العرب "، والذي اعتمد فيه على وثائق من داخل أرشيف الدولة في فرنسا، وموجهاً كتابه باللغة الفرنسية للقراء الأوروبيين. وفيه يورد تفاصيل دقيقة عن سلوك المشاركين في الحملات، فهم قاموا بسرقة ونهب الممتلكات التي استولوا عليها بما فيها الكنائس، وقتلوا الرهبان ونكلوا بهم. وبرأيه، ذلك يؤكد ضعف الادعاءات لدى الأوروبيين، بأن قيامهم بالحرب هو لتخليص بيت المقدس وإنقاذ الحجاج المسيحيين من اضطهاد المسلمين.

مما يؤكد دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية للحروب، مشاركة الأثرياء والتجار في أوروبا، ولا سيما تجار المدن الإيطالية كالبندقية وجنوه بتمويل الحملة الأولى والثالثة على سواحل بلاد الشام. ففي تلك الفترة، ازدهرت التجارة البحرية، مما أفاد أولئك التجار من إشرافهم على التجارة المتوسطية، وكانت القوة الاقتصادية الوحيدة المنافسة لهم هي قوة الاقتصاد الإسلامي. ومن هنا حرص تجار أوروبا على تمويل الحملات الصليبية في مصر وبلاد الشام، وهو ما يساعدهم في القضاء على منافسهم الوحيد، ويَفتح لهم أسواقًا هائلةً للتجارة في المناطق الجديدة.

وإن إغراء ثروات المشرق لرهبان وتُجار وفقراء أوروبا، دلَّ عليه سلوك الحجاج الصليبيين المرافقين للحملة الذين انتهكوا حرمات أبناء ملتهم من مسيحيي الشرق ـــ أتباع المذهب المسيحي الأرثوذكسي ـــ وقاموا بنهب مزارعهم وأسواقهم، واسترقوا نسائهم وأطفالهم في أراضي البلغار والأناضول وأنطاكية والقدس، وكما تُوجت الانتهاكات بالحملة الصليبية الرابعة التي غيرت طريقها من مصر، واستولت على القسطنطينية في عام 1204م. 

وفي نهاية الأمر، يمكن اعتبار الدوافع الاجتماعية والاقتصادية محورية وجوهرية في تحريك صراعات الأمم في جميع الفترات التاريخية، ولا سيما في محددات صراع الغرب مع العالم الاسلامي، وربما نتوافق والرؤية التي اعتمدها المفكر العربي محمد عابد الجابري والباحث غراهام فور المستشار في مؤسسة راند الأمريكية، ومفادها بأن: "الغرب مصالح ولا شيء غير المصالح". وبناء على هذا، بقي البُعد الديني للصراعات مطيةً، وهو أشبه بـ " حصان طروادة" لكل من أراد تبرير حربه أو شن عدوانه قديمًا وحديثًا. وتحت غطاء الدين، سقطت الشعوب ضحية مصالح القوى المسيطرة وصاحبة السيادة، والتي كان يمثلها رجال الكنيسة والاقطاع في أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي، والرأسماليات الغربية والشرقية في القرن الحادي والعشرين. ولذا، فالصراع كان ولا يزال هو صراع اجتماعي واقتصادي بين المستغِلين والمستغَلين، وكل ما عداه هو ذَرٌّ للرماد في العيون.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس