د.فاروق طيفور - خاص ترك برس

من واجبنا أن نهنئ الشعب التركي على إنجازه وحرصه على حماية هويته ومشروعه والإصرار على صناعة نموذج ديمقراطي تركي فريد رغم الحملات العالمية المبرمجة لإفشال هذه التجربة المستمرة في الزمن رغم العقبات والعراقيل والإكراهات الداخلية والخارجية.

وحالنا مع نجاحات الآخر - رغم أن الشعب التركي ليس آخر بل هو جزء منا ونحن جزء منه- هو حال تعيس للأسف الشديد لأنه يتميز بصفة الإفراط أو التفريط، فما زالت نخبنا الفكرية والإعلامية اليوم تتعامل مع مثل هكذا حالات إما بثقافة الانبهار والاستغراق في المدح والتعبير عن العواطف التي لا تتوقف أو  بمنطق العقدة من الآخر وتشويه صورته ونعته بنعوت غريبة لم يصل إلى استخدامها العدو فضلا عن الصديق، وتقوم في مواقع التواصل الاجتماعي حروب بالأصالة وبالوكالة تهدر الطاقات وتنمي الخصومات المجانية، رغم أن كلا الطرفين شعر أو لم يشعر يقع في نفس المربع الملهي عن واجب اختيار الموقع السليم والصحيح، وهكذا كلما وقعت أحداث مشابهة. ويغفل هؤلاء وهؤلاء أنهم واقعون في برامج الآخر الرافض لميلاد أي تجربة أو نموذج ديمقراطي في عالمنا العربي والإسلامي فلا الديمقراطية التركية ديمقراطية ولا الديمقراطية الإيرانية ديمقراطية ولا حتى الماليزية ديمقراطية فمصنع الديمقراطية هم من يصنعه ويؤثثه ولا سبيل لصياغة النموذج الذاتي إلا تحت رايتهم ونستخدم نحن لتسويق هذا البرنامج كوقود لمعارك وهمية لا تنتج فكرا ولا مشروعا بل هي كما جاء في الحديث لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

ومن أجل بحث نمط جديد من التفكير والتعبير لتحقيق التغيير بعيدا عن ثقافة الانبهار ومنطق العقدة المزمنة من نجاح تركيا عند بعض الأعراب للأسف الشديد من الذين يستخدمون اليوم قنواتهم الإعلامية لتسميم العقول بوضع بعض نقاط الضعف في التجربة تحت المجهر وتسويقها للعامة على أنها هي الأصل في التجربة بقصد عزل الأمة عن أطرافها باستخدام أسلوب ضرب النخبة بالنخبة وتشويه النموذج خوفا من العدوى والتعميم.

وتحول الإعلام الغربي المُعرّب إلى آلة تدميرية لكل جميل يحدث في الأمة وأصبح الذين يفرحون لنجاح بعض أطراف الأمة عملاء لأطراف خارجية، ونسوا أن النجاح يجلب النجاح ويصنع النجاح والفشل أيضا له جيرانه ودعاته، وكأني بالشعوب التي عبرت عن فرحتها بالنجاح التركي وقبلها الماليزي لسان حالها يقول اصنعوا لنا نجاحات في بلداننا واعتبروا واطووا صفحات الإخفاق في كل شيء حتى في كرة القدم حيث أصبحنا ننافس عن أكبر مشارك سنا في الفرق وليس التنافس على من يأخذ الكأس.

أعتقد أن التجربة التركية اليوم لا تحتاج إلى من يسوق لها فهي سلعة مميزة دخلت السوق بقيمة تنافسية كبيرة وأصبحت بعد مرور أكثر من خمسة عشر سنة من العمل والتفاني والنجاح مصدر إلهام ليس فقط لمثيلات الحزب الحاكم في تركيا اليوم من الحركات الإسلامية بل قفزت تجربتها إلى مصاف الدول الصاعدة التي تؤثر في باقي دول العالم على اعتبار أنها وصلت إلى مستوى جد متقدم في تجسيد سياسات التنمية بل وحولت البلد من موقع الدولة الطرف إلى الدولة المركز وغيرت من واقع تركيا من دولة على هامش الحدث الدولي إلى بلد فاعل في صناعة حاضر ومستقبل المنتظم الدولي وأصبحت شريكا رئيسيا في القرار الإقليمي.

هذا المستوى والموقع الذي وصلت إليه التجربة التركية لا شك بأنه نتيجة لوجود رؤية صاغتها الخبرة التركية والذكاء الجماعي التركي الذي عرفت قيادته كيف تحول طاقات وخبرات وتاريخ الدولة التركية إلى سياسات وبرامج عملية وترتيب أولويات الإصلاح والتغيير بطريقة براغماتية في مدى زمني منظور دونما استباق للأحداث أو استعجال للنتائج أو تقييم للذات من خلال رؤية الآخر للذات.

فنحن أمام تجربة مختلفة، ومغايرة للتجارب المحبطة في بعض البلدان العربية، سواء وصلت التيارات أو الأحزاب الإسلامية المماثلة إلى الحكم أو بقيت في المعارضة، إذ إن تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا انشغلت في بناء الدولة، وتنمية الاقتصاد، ورفع مستوى التعليم، وتحسين مستوى عيش المواطنين، في حين أن ظروفها في البلدان العربية كانت أولوياتها غير ذلك وارداة الإفشال واضحة.

ونقطة إسقاط الشعاع هنا أننا إزاء تجربة مغايرة وناجحة في تركيا، أولًا، لأنها أثبتت ذاتها ليس بالشعارات وإنما بمعايير إدارة الاقتصاد والمجتمع والسياسة، في مقابل إخفاق أو إفشال تجارب الحركة الإسلامية في البلدان العربية على أكثر من صعيد؛ وضمنها إخفاقها في التكيف مع الشروط الموضوعية ومع تطورات العصر ومتطلبات الواقع. وثانيًا، لأن منطلقات حزب العدالة والتنمية التركي تختلف عن المنطلقات التي يتبناها الجسم الرئيس في التيارات الإسلامية العربية، المتمثلة بـ (جماعة الإخوان المسلمين)، لجهة النأي عن شعار: “الإسلام هو الحل”، وعن التطبيق الحرفي للشريعة أو القول بـ”الحدود” أو بـ”الحاكمية” أو بالخلافة. وثالثًا، لأننا إزاء تجربة لتيار إسلامي يقبل بالعلمانية وبالديمقراطية وبتداول السلطة، وتقديم نفسه بمعايير الإنجازات في المشاريع الاقتصادية ورفع مستوى التعليم والإنتاج، وهي ليست حال التيارات الإسلامية العربية التي لم تجد بعد طريقها إلى التصالح مع الواقع والعصر والعالم بسبب الصراع الفكري بينها وبين الأنظمة والنخب الحاكمة والدعم الدولي لها.

والتجربة التركية تتميز بمقاربة فريدة ومميزة لقضية من أعقد القضايا التي تلقي بظلالها على الوضع في الشرق الأوسط توترا واستقرار، وهي العلاقة الملتبسة والمثيرة للقلق بين الدين والدولة، وتحديدا بين الإسلام والسياسة، وبالتالي فإن النموذج "التركي" يشكل منوالاً يجسد فيه الإسلام عاملاً مهما في ديناميكية الحياة السياسية، إلى جانب العامل القومي، وسعي تركيا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، بالاقتران مع الدور النشط في قضايا وملفات الشرق الأوسط، ووضع طور جديد في العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية يتجاوز بالتأكيد العلاقة التقليدية خلال الحرب الباردة وما بعدها.

والمثير للتأمل - بجدية - ذلك التقديرُ الإيجابي (العامُّ) للانتخابات التركية ونتائجها التي مكَّنت "حزب العدالة والتنمية" ذا الخلفية الإسلامية من الإمساك بزمام السلطة بشِقّيها: رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، في جمهورية أتاتورك العلمانية العَتِيَّة. فحتى أولئك الذين يقفون على خصام مع "الفكرة الإسلامية" حارت عقولهم في هذه "المفارقة التركية" ذات الوجهين: الوجه الأول: أن البلد الإسلامي الوحيد الذي أعلن علمانية دولته رسميًّا منذ البداية، وطوَّر أيديولوجية علمانية صريحة - وفق النموذج الفرنسي - هو نفسه الذي أوصل حزبًا سياسيًّا ذا خلفية إسلامية إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية سلمية وسَلِسَة، اعترف العالم أجمع بشرعيتها ونزاهتها. ووجه المفارقة الثاني: تساؤل ينطوي على دلالات عدة، يطرحه علي حرب قائلاً: "كيف تَمكّن حزبٌ سياسي ذو خلفية دينية وأصول إسلامية من أن يقود تركيا بنجاح ملحوظ في نظر العالم، وفي أكثر القضايا والشؤون: في السياسة والتربية، كما في الاقتصاد والأمن، سواء على مستوى الداخل أو من حيث العلاقة مع الخارج؟".

عموميةُ ذلك التقدير (الذي أسماه الدكتور معتز الخطيب في دراسته بعنوان: ظاهرة الإعجاب بالنموذج التركي) جاءت من مختلف الأطراف السياسية والفكرية في العالم العربي، بل والشعبية كذلك، حتى "باتت تجربة هذا الحزب في البناء والتحديث مادةً للتأمل والتدبر، خاصةً من جانب العرب والمسلمين، الذين يهتمون بتحليل أبعادها ودلالاتها؛ لاستخلاص دروسها وعِبَرها".

وأيًّا ما يكن الأمر، فمن المؤكد أن تعبير "النموذج التركي" أصبح الأكثر شيوعًا في سياق الحديث عن تركيا حزب العدالة والتنمية، وإن كنا قرأنا – على قلةٍ - تعبيراتٍ أخرى مثل "العصر التركي"، و"العثمانية الجديدة"، وغير ذلك.

العوامل المساعدة على نجاح العدالة والتنمية التركي:

هناك عدة عوامل ساعدت على نجاح حزب العدالة والتنمية والذي على الرغم من تعدد واختلاف الأوعية التي غرف منها، تبقى الرافعة الكبرى التي رفعته إلى السلطة، في انتصار ساحق، على أحزاب وزعامات عريقة، هي قاعدة إسلامية، ولكن كانت الرؤية في ترك الصدام مع المجتمع والجيش فلم تر مناصًا من تغيير في الخطاب والوجوه والتكتيكات... فكان العدالة والتنمية، وذلك أن:

1- القاعدة الإسلامية التي رفعت أربكان إلى سدة الوزارة الأولى، تجاوزت نسبتها 22% من أصوات الناخبين في عهد أربكان، ولم يذهب منها إلى حزب السعادة اليوم غير 1%، فأين ذهب البقية إذا لم يكونوا هم غالبية من صوت للعدالة؟

2- إن أداء الإسلاميين في الحكم لم يكن سلبياً، وكان في إدارة المدن التركية الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأرضروم ممتازا، وهو الأداء الذي جعل من أردوغان نجماً ساطعاً في سماء إسطنبول ببرامجه وإنجازاته مما فرض التسليم بحقيقة أن رصيد الإسلاميين في الحكم، وحل مشاكل الناس، ليس مجرد شعارات تدغدغ المؤمنين، وتعدهم بالجنة، وتخوّفهم بالنار، على أهمية أثر ذلك لو حصل، وإنما برامج عملية لحل مشكلات معيشية، فشلت أحزاب العلمنة في حلها، بسبب انفصالها عن ضمير الشعب، وما تلوثت به من مفاسد.

3- غلبة الروح العملية على المناظرات النظرية والآيديولوجية جعلت حركة التطور في هذا الحزب سهلة ميسرة، مكتفين في المجال الفكري بالرصيد الهائل والتشكيلة المتنوعة من منتوج التيار الإسلامي الوسطي في كل أنحاء المعمورة، فعملوا على الاستفادة منه، وصياغته بالشكل الذي ينسجم مع واقع الشعب التركي وميوله، فجاءت برامجهم النظرية استجابة لحلم الغالبية الساحقة من الشعب التركي ومن كل الأطياف والأطراف...

4- التأكيد على قيم الحداثة في الساحة الإسلامية من قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، مما جعلهم جزءا متصلا بالمجتمع لا منفصلا عنه، مستجيبا بذكاء لمتطلباته لا متصادما معه، فأحبوا الناس وأحبهم الناس...

5- الاتفاق الداخلي والتماسك التنظيمي، والابتعاد عن الخلافات الشحصية والنزاعات القيادية، والتناحر على مناطق النفوذ والإيثار وتغليب المصلحة العليا للمجموع على الأطماع الفردية، وسلامة الصدر وحسن النوايا والشعور بالمسؤولية تجاه ما يحملون من برامج تستحق فناء الذات، واحترام الاتفاقيات وعدم التمسك بالكراسي والمناصب حيثما جاء وقت الاستحقاق الرسمي والأخلاقي والسياسي.

6- إن تنازل عبدالله غُل عن رئاسة الوزراء لأردوغان مع بداية الدورة قبل خمس عشرة سنة، بعدما حالت قضايا قانونية دون تسلمه المنصب، وعدم تمسك غُل رغم قدرته على ذلك، كان الدليل على عمق ولاء رموز الحزب للمبدأ وللأخلاق بعيدا عن وهج المناصب ولمعان المواقع...

7- البعد عن العنف في معالجة قضايا الخلاف الداخلي والخارجي، واختيار الأساليب العقلانية والقانونية في حماية حقوقهم الدستورية، والرهان على سلامة التقدير عند الرأي العام عن الحاجة والضرورة، وهذا الذي أمَّن لهم طريق العودة الكبيرة إلى السلطة، ومهد لهم السبيل وبقوة إلى قلوب الناس قبل أي شيء آخر.

8- وعلى المستوى السياسي نجح أردوغان في تحقيق حدّ أدنى من التوازن بين حكومته و مراكز النفوذ العلمانية و خاصة المؤسسة العسكرية، و استطاع لأول مرّة أن يعدّل توجهات السياسة الخارجية لتركيا ليوازن بين مشروعها الأوروبي و بين مصالحها مع بقية الأطراف الدولية.

وإذا ما أردنا أن نختصر عوامل نجاح حزب العدالة والتنمية في تحقيق الوثبة التركية الكبيرة فإننا نعزوها كما قال أحد الباحثين (سعيد الحاج) إلى منظومة متكاملة من العناصر التالية:

• أولاً، القيادة: ما زالت تركيا دولة مشرقية في تاريخها السياسي و«صوفية» في منظومتها المجتمعية، الأمر الذي يزيد من دور القائد أو الزعيم، ورغم أن الأدوار القيادية مهمة في كل المستويات، إلا أن أحداً لا يمكنه إنكار دور أردوغان في مسيرة الحزب وتركيا. يتمتع الرجل بالكفاءة والكاريزما والكثير من المهارات القيادية إضافة إلى حب واحترام معظم شعبه، فضلاً عن شجاعة وحزم يظهرهما في الأزمات المتلاحقة التي تتعرض لها تركيا في تميز واضح عن أغلب رفاق دربه، كما رأينا في قضايا الفساد عام 2013 والانقلاب الفاشل مؤخراً.

• ثانياً، الخلفية الفكرية: ثمة رؤية ناظمة لعمل حزب العدالة والتنمية وضع بذورها المنظر داود أوغلو تتعلق باستثنائية اللحظة التاريخية – ما بعد الحرب الباردة – وتستنهض إمكانات وممكنات تركيا لصنع مكانتها وفقاً لتاريخها وجغرافيتها، وتتناغم مع موروثها الحضاري وتحترم هويتها، وتسعى لجعلها «دولة مركز» في محيطها المتشارك معها تاريخياً وجغرافياً والمتواصل معها ثقافياً واقتصادياً.

• ثالثاً، الرؤية والتخطيط: جمع العدالة والتنمية بين رؤى بعيدة المدى – لها رمزيتها – مثل مئوية تأسيس الجمهورية في 2023، أو مرور 500 عام على فتح إسطنبول/القسطنطينية في 2043، أو ألفية معركة ملاذكرد في 2071، وبين الخطط التنفيذية قصيرة المدى. وقد بنيت هذه الخطط، التي ناسبت الخصوصية التركية بعد دراسة عدة تجارب، بناء على مسح ودراسة واقع قامت بها مراكز بحثية أنشأها الحزب لهذا الغرض، وشخصت المشاكل الرئيسة لتركيا، والتي ساعدته ليرفع شعار محاربة الفقر والفساد والمحظورات في عمله السياسي.

• رابعاً، التدرج: لقد بدأ الحزب مسيرته برؤية واضحة لتحييد الخصوم تجنباً لمصير سابقيه من أحزاب «الحركة الإسلامية» التركية بقيادة أربكان، فقدم تطمينات داخلية وخارجية على كونه حزباً خدماتياً سيركز على مشاكل البلاد الاقتصادية بعد أن «خلع قميص» أربكان. وفي كل الملفات سابقة وتالية الذكر، كان العمل من خلال خطوات يبني بعضها على بعض ديدنَ عمل الحزب الحاكم.

• خامساً، تجربة شعب لا نخبة: أتت قيادات العدالة والتنمية من صفوف الشعب وكانت تعرف معاناته فلم يكن من الصعب عليها العمل على حل مشاكله، كما أن التجربة التركية لا يمكن اختزالها بالعمل الحكومي، فقد رفعت الحكومة سقف الحريات وشجعت المجتمع المدني التركي ممثلاً بالبلديات ومؤسسات الحكم المحلي والمنظمات الاقتصادية والمجتمعية التي ساهمت بحمل جزء من العبء عن الحكومة إضافة إلى اطلاعها الأفضل على المشاكل المحلية وكيفية حلها، ولعله من المعروف أن أردوغان وعدداً من قيادات الحزب أتوا من تجربة البلديات قبل تأسيس الحزب.

• سادساً، بين الفرد والمجموعة: بفعل الثقافة المقدسة للفرد، يكثر في البلاد العربية الحديث عن مسيرة أردوغان بينما تغفل أسماء وسياقات مهمة بين طيات التجربة التركية. فرغم كل ما يمكن قوله عن الرجل وإمكاناته ودوره، وقد سبقنا القول في ذلك، إلا أن التجربة التركية لم تكن يوماً تجربة أردوغان وحده. فقد جاء الرجل أولاً من تيار مجتمعي إسلامي – محافظ سمح له بالعمل والظهور وإثبات جدارته وفيه تقدم في العمل الحزبي. لاحقاً، ضمت النواة الأولى للحزب، ثم المجموعة التي أثرت التجربة، أسماء لامعة مثل عبدالله جول الشخصية الإدارية الهادئة القادرة على التواصل الإيجابي حتى مع الخصوم، وبولند أرينتش الحقوقي المخضرم ذي الخطاب العقلاني، وأحمد داود أوغلو المنظر السياسي والمفكر الاستراتيجي، وعلي باباجان عبقري الاقتصاد، وحاقان فيدان الصندوق الأسود وذراع أردوغان اليمنى، وغيرهم الكثير والكثير في مختلف المناصب والدوائر والمستويات. ولعل من تابع التجربة عن كثب، سيما في سنواتها الأولى، يرى حجم الشغف بالإنجاز وحسن اختيار فرق العمل وفقاً للخبرة والكفاءة.

• الدروس المستفادة من حزب العدالة والتنمية:

بغض النظر عن اختلاف الآراء فإن الحركات السياسية الإسلامية والأحزاب أيضًا مطالَبة بالاستفادة من التجربة التركية، وأهم هذه الدروس المستفادة:

• العمل في ظل ظروف صعبة بالغة القسوة مع عدم الرضا بالواقع المرّ؛ أملاً في تغييره، مع التدرج في تغييره، والنفس الطويل والصبر الجميل.

• القدرة على بناء حزب سياسي حقيقي مفتوح لكل المواطنين، يُشعِر كلَّ من ينتمي إليه بقدرته على المشاركة في القرار، والاستفادة من عضوية الحزب، وأن الحزب يمثِّل مظلةً وطنيةً للجميع في ظل القواسم المشتركة.

• الحوار والتنافس مع القوى السياسية من مختلف التيارات حتى تلك المغالية جدًّا والمتشددة في عدائها لكل ما هو إسلامي، وعدم القطيعة معها، واحترام ثقلها ووجودها السياسي؛ أملاً في تحييدها أو تغييرها إلى الأفضل، فإن لم يكن فأملاً في تحجيم وزنها السياسي وليس شطبها من الحياة السياسية، بشرط إلزامها بالدستور والقانون، ولا شك في أن عدم نزول مظاهرات مضادة إبَّان اشتداد الأزمة الرئاسية كان قرارًا حكيمًا وصائبًا.

• الحفاظ على التوازن في العلاقة مع المؤسسات الوطنية المهمة كالجيش والمخابرات والقضاء ورجال الأعمال والصناعة وعدم الصدام معها.

• التعبير عن مصالح الغالبية العظمى من الشعب والدفاع عن حقوقه القانونية والدستورية، والسعي إلى تحقيق العدل والمساواة والدفاع عن الحريات العامة.

• الإصلاح الاقتصادي اليوم هو المفتاح السحري لكسب ثقة الشعب، فلا شكَّ في أن هناك مؤشراتٍ اقتصاديةً حقَّقتها حكومة حزب العدالة والتنمية خلال أقل من 5 سنوات من خفض العجز والتضخم، ونموّ الدخل القومي، ونسبة نموّ عالية، وكانت بداية ذلك هو ما أعلنه أردوغان في خطاب الفوز الكبير عندما قرر الاستمرار في مقاومة وحرب الفساد وكشف المافيا، وعندما يواجه الإسلاميون الفساد فإنهم يحاربون على نفس جبهة الاستبداد، فهما قرينان وشريكان في إفساد المجتمعات، وعلى الحركات والأحزاب الإسلامية بناء تصوُّر اقتصادي واقعي للحرب على الفساد والمافيا وبناء اقتصاد وطني وقومي سليم.

• التواضع وخفض الجناح وعدم الغرور شرط الاستمرار في النجاح.

• بناء علاقة جيدة مع الغرب والخارج بعيدًا عن الصفقات السرية وفي العلن مع موقع القوة الشعبية، مع عدم الرضوخ للإملاءات والشروط المجحفة، بل تقوم هذه العلاقة على الاحترام والقيم المشتركة والمصالح المشتركة؛ من أجل بناء حضارة إنسانية، وتحقيق الأمن والاستقرار في العالم كله.

• إن إقناع الغرب لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في العلاقات الدولية، وإن الغرب عليه أن يغيِّر من نظرته إلى الإسلام كعقيدة، ويحترم حق المسلمين في اختيار  طريقة حياتهم وشريعتهم التي تحكمهم، ولا يفرض عليهم نظامًا معينًا، على عكس ما يقوله بوش بأن المتطرِّفين الإسلاميين هم الذين يريدون تغيير نظام الحياة في الغرب.

• العمل على وجود مجتمع مدني مستقل وقوي بعيدا عن الاختلافات السياسية والتيارات الحزبية على صعيد الحراك (الاجتماعي – الاجتماعي ، الاجتماعي – الاقتصادي ) اي استحداث مؤسسات يتم إنشاؤها ترعى كافة الاحتياجات الشعبية سواء كانت اجتماعية (عمل خيري، بر...)، أو اقتصادية (جمعيات حقوق المستهلك، ومحاربة الغلاء...)، أو فنية (محبو الفنون، المحافظة على البيئة...)، وغيرها... دون الاصطدام مع السلطة، أي من منطلق اهتمامات الشعب وذلك لتوسيع دوائر مشاركة الجماهير ذات الاتجاهات والاهتمامات المختلفة في عملية إصلاح المجتمع، وأيضا في تنمية شعور الانتماء للدولة.

عن الكاتب

فاروق ابو سراج الذهب طيفور

باحث في العلوم السياسية و العلاقات الدولية / الجزائر.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس