د. علي حسين باكير - عربي21

في مؤشر جديد على نيّة الإدارة الأمريكية الإتجاه نحو التصعيد في الأزمة المفتعلة مع تركيا مؤخراً على خلفية القس الأمريكي، قال ترامب إنّ أنقرة لم تثبت أّنّها صديق جيّد، وإنّها تمثّل مشكلة منذ وقت طويل، مضيفاً "لن ندفع شيئاً من أجل إطلاق سراح رجل بريء، لكننا سنخنق تركيا". 

لا تترك مثل هذه التصريحات أي مجال للاجتهاد بخصوص نيّة الإدارة الأمريكية إيقاع أكبر قدر من الضرر بتركيا. وبالرغم من أنّ السلطات التركية استطاعت دعم وضع الليرة بعد انخفاض حاد نهاية الأسبوع الفائت، إلا أنّ التهديدات الأميركية المستجدة تشي بموجة تصعيد أخرى قادمة لاحقاً. 

أكثر ما يثير الانتباه في هذه المعركة ليس رد الجانب التركي على ترامب، وإنما الموقف الأوروبي ممّا يجري. يبدو الجانب الأوروبي الطرف الأكثر ترقّباً للتداعيات السلبيّة المحتملة، ولعلّ الموقف الألماني والفرنسي يعدّ مؤشراً قوياً على مثل هذه الاستنتاج. الدولتان المذكورتان من أقوى دول الاتحاد، وبالرغم من أنّهما من أكثر دوله مناكفة لتركيا ورئيسها، إلا أنّ موقفها مما يجري حالياً إيجابي إلى حدّ كبير.

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أكّدت أنّ بلادها حريصة على أن تكون تركيا "مزدهرة اقتصاديا"، ومثلها فعل الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أكّد على أهمّية استقرار الاقتصاد التركي وتعزيز الشراكة بين البلدين. خلفية هذه المواقف مفهومة، فالأوروبيون ليسوا على وفاق مع الرئيس الأمريكي بشأن سلوكه السياسي أو الاقتصادي على المستوى الدولي، فهو في نهاية المطاف يفرض رسوماً جمركية ضدّهم، لكن ليس هذا هو السبب الرئيسي للقلق الأوروبي من التطورات الحالية. 

هناك عوامل أخرى أكثر قوّة تفسر الموقف الإيجابي الأوروبي من تركيا في هذه المرحلة، لعل أهّمها: من الناحية الجيو-سياسية، تعتبر تركيا بمثابة بوابة الاتحاد على منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، وبهذا المعنى، فهي تقف حائلاً دون وصول فوضى الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد. لطالما لعبت أنقرة أيضاً -لاسيما إبّان الحرب الباردة- دور المنطقة العازلة أو حائط الصد أمام تمدد الاتحاد السوفييتي باتجاه أوروبا، ولذلك يخشى الأوروبيون أن تدفع الأزمة أنقرة إلى الانجراف بعيداً باتجاه روسيا، الأمر الذي سيترك تداعيات جيوبولتيكية خطيرة سيكونون أوّل المتأثرين بها وذلك على خلاف واشنطن.

من الناحية الاقتصادية، يعتبر الإتحاد الأوروبي من أهم شركاء تركيا التجاريين، وكما تستفيد تركيا منه في هذا المجال، فإنه لا مصلحة لدى دول الاتحاد بزعزعة واشنطن لوضع الاقتصاد التركي لاسيما أنّ مثل هذه الخطوة ستنعكس بالضرورة على الوضع الاقتصادي لدى العديد من دول الاتحاد، وهذا ما يفسّر كذلك تصريحات وزير الاقتصاد الألماني الذي إنتقد بشكل حاد الحرب التجارية الأمريكية مشيراً إلى أنّها "تبطئ النمو الاقتصادي وتدمره وتؤدي إلى عوامل جديدة لعدم الاستقرار".

من الناحية الأمنيّة، تدفع الأزمة الأمريكية أنقرة باتجاه موسكو بشكل متزايد وخطير. وبالرغم من أنّ هذا الخيار قد يتطور بشكل سلبي مستقبلاً، إلا أنّه لا يمكن لوم تركيا على ذلك، ففي نهاية المطاف ليس لدى الأتراك الكثير من الخيارات، وبالرغم من تعبيرهم عن نيّتهم حلّ المسائل الخلافية مع واشنطن، فإنهم لا يستطيعون أن يظهروا بمظهر الضعيف في هذه المواجهة أمام ترامب. 

ما يخشى منه الأوروبيون في هذه النقطة بالتحديد هو أن يؤدي هذا الوضع إلى شق الصفوف في حلف شمال الأطلسي، أو ربما الى إنهيار الحلف مع خروج أنقرة منه أو إخراجها منها، الأمر الذي يؤدي إلى يترك أوروبا مكشوفة من الناحية العسكرية أمام روسيا سيما مع موقف ترامب المشكك مؤخراً بجدوى الحلف ووظيفته.  

لأجل كل هذه الأسباب، يبدو الأوروبيون أكثر حرصاً من غيرهم على استقرار تركيا في الوقت الراهن، وعلى أخذ صفّها في مواجهة التصعيد الأمريكي، وهذا ما يفسّر بدوره الجهد الدبلوماسي التركي المبذول مؤخراً لإعادة تصحيح ما تضرر سابقاً في العلاقات بين أنقرة وعدد من الدول الأوروبية لاسيما ألمانيا. 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس