صحيفة ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

تهدف مدينةُ بورصة "المدينة الخضراء" التي تُعرف منذ وقتٍ طويلٍ بأنها عاصمة السيارات والمركز الصناعي في تركيا، للتركيز أكثر على السياحة والزراعة والمنتجات عالية التقنية، ولدى المدينة أمثلةٌ ملهمةٌ على ذلك.

ربما لا توجد مدينةٌ أخرى في تركيا خضعت لهذا التحول السريع مثل بورصة. فقبل خمسين سنةٍ فقط، كانت هذه العاصمة العثمانية القديمة معروفة بالمدينة التاريخية وبطبيعتها الخضراء. عندما وضعت صناعة السيارات موطىء قدمٍ في بورصة في أواخر ستينيات القرن الماضي، بدأ تحويلها إلى مركزٍ صناعي.

واليوم، لديها 21 منطقة صناعية منظمة، بالإضافة إلى اثنين من مصانع السيارات العملاقة، والعديد من شركات صناعة السيارات والحافلات التجارية الأخرى ومنتجي قطع الغيار. وتمثل صناعاتُ بورصة 10 في المئة من صادرات تركيا بأكثر من 14 مليار دولار، كما أنها توفر فائضًا في التجارة الخارجية قدرُه 6 بلايين دولار. لكن وبطبيعة الحال كان لهذا التحول السريع ثمنٌ دفعته المدينة، ألا وهو التحضر غير المخطط له والتلوث. والآن، تحتاج المدينة لمعرفة إن كان تحويل تخطيطها الحضري سيحسن نوعية الحياة وسيدعم التنويع الاقتصادي فيها أم لا.

تمّ التطرّق إلى هذا السؤال خلال فعالية "اجتماعات الولايات" التي نظمتها صحيفة صباح. من خلال هذه الفعالية، أتيحت الفرصة لكُتّاب المقالات والمراسلين للالتقاء بالسلطات المحلية وإلقاء نظرة على الأوضاع الاقتصادية في بورصة. وقد تمّت استضافةُ مجموعة ديلي صباح من قبل بلدية بورصة، للتمتع بالأذواق المحلية وزيارة معالم المدينة.

تُعدُّ بورصة واحدةً من المدن القليلة في العالم التي تضمُّ 3 ملايين شخصٍ وما زالت في الوقت نفسه تحمل لقب "الخضراء". تدين المدينةُ بهذا العنوان إلى أولوداغ، والذي يعني بالعربية "الجبل العظيم" الذي يهيمن على أفق مدينة بورصة. بالنسبة للزوار الذين يتطلّعون جنوبًا من السهل الخصب، حيث يقع معظم مدينة بورصة الحديثة، فإن قمته بارزةٌ جدًا، وهي الأعلى في منطقة مرمرة شمال غرب تركيا، وهناك تتشكل خلفيةٌ خضراءُ مدهشةٌ للمدينة. لا يُزوّد جبل أولوداغ مدينة بورصة وسهولها بالمياه فحسب، ولكنها تضمُّ أيضًا عشرات شركات المياه المعبّأة في زجاجاتٍ تُنقل إلى بقية البلاد. كما يُعدّ الجبل أحد أبرز مراكز الرياضات الشتوية في تركيا، حيث يجتذب مئات الآلاف من السياح إلى مواقع التزلج ذات المستوى العالمي كل عام، ويوفر لمدينة بورصة عائداتٍ مهمة.

تقع مدينة بورصة بين الجبل والسهل، وتمتد مسافة 40 كيلومتر تقريبًا. وفي قلبها تقع المدينة القديمة التي تعد أول مدينةٍ كبرى حاصرها مؤسس الإمبراطورية العثمانية عثمان غازي سنة 1307 وتولّى حكمها ابنُه أورهان بيك في عام 1326. أصبحت المدينة عاصمةً للدولة بعد توسّعها، وعندما تمّ ضمُّ أدرنه في إقليم تراكيا سنة 1363 للأراضي العثمانية نقل العثمانيون إليها عاصمتهم تماشيًا مع سياستهم في التوسع نحو أوروبا. وعلى الرغم من ذلك، حافظت بورصة على كونها مركزًا تجاريًّا وإداريًّا إلى أن فُتِحَت إسطنبول سنة 1453.

ولا تزال مدينة بورصة القديمة المدرجة في قائمة اليونسكو، والتي قدمت نموذجًا للمدن العثمانية في وقتٍ لاحق، تضمُّ معالم مختلفة من القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتوفرُ لمحةً عن ماضٍ استمرَّ لقرون. بقيت بورصة مركزًا تجاريًّا وإداريًّا هامًّا لقرونٍ عدة، ويرجع ذلك أساسًا إلى موقعها كمحطةٍ هامةٍ على طريق الحرير القديم وطرق القوافل الأخرى.

تشتهر المدينةُ كذلك في إنتاج الحرير، وقد ظلت مركزًا بارزًا لإنتاج المنسوجات، وهي ميزةٌ لا زالت مستمرةً حتى يومنا هذا. قامت بلدية بورصة بترميم مصنع "أوموربي" التاريخي لصناعة الحرير لإعطاء الناس فرصةً لمشاهدة صناعة الحرير باستخدام تقنيات إنتاجٍ تعود إلى قرونٍ سابقة، بالإضافة للحفاظ على قيمة التقليد الذي ساد في صناعة المنسوجات في المدينة.

يعد متحفُ "أكتشالار أركيوبارك" أيضًا من الموقع المثيرة للاهتمام في بورصة، حيث تجري الحفرياتُ في مستوطنة عمرها 8500 سنة، تعرف باسم "أكوبراكليك ماوند". ويضمُّ الموقعُ قرية تحتوي على منازل خشبية قديمة وغير مستخدمة، ويقدم المتحف هناك معسكراتٍ وورش عملٍ للأطفال. كما تقوم البلدية بتشغيل ما يقرب من عشرين من المتاحف الأخرى، بعضها يختصُّ بمسرحية الظل التركية "كاراغوز" و"هاجيوات".

وبالإضافة إلى سكانها المسلمين والأتراك، كانت مدينة بورصة موطنًا لتجمعاتٍ سكانية يونانية وأرمنية ويهودية حيوية بفضل وقوعها على طريقٍ تجاريٍّ نشط. بدأت هذه الميزةُ تتغير في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما تفككت الإمبراطورية العثمانية وغادر السكانُ اليونانيون المدينة خلال التبادل التركي اليوناني للسكان عام 1923. استقر فيها في نهاية المطاف العديدُ من الأتراك والمسلمين الذين غادروا البلقان والقوقاز في بورصة، وآخر تدفقٍ سكانيٍّ إليها كان من بلغاريا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

ومع صعود موجة التصنيع، بدأت بورصة باستقبال الهجرة من جميع أنحاء تركيا. وقد استقرّ فيها نحو 130 ألف سوري في بورصة بعد تدفق اللاجئين الجماعي من الحرب في سوريا، وأصبحت المدينة موطنًا لجاليةٍ سوريةٍ نابضًا بالحياة، بالإضافة إلى كونها خيارًا بارزًا للسياح العرب أثناء زيارتهم لتركيا.

وتقدم بورصة مجموعة متنوعة من البدائل الأخرى لمشاهدة المعالم السياحية، مثل قرية غوليازي Gölyazı، التي تقع على جزيرةٍ في بحيرة أولوبات، وقرية جوماليكيزيك Cumalıkızık، التي تعتبر واحدةً من أفضل الأمثلة على العمارة العثمانية.

لفترةٍ طويلة، تردّدت المدينةُ في التوسع شمالًا إلى السهل الذي يشتهر بالخوخ. ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، ظهرت أحياء جديدة من الطبقة العاملة في شمال وشرق المدينة القديمة التي تقع اليوم في مدن عثمان غازي ويلدرم. بدأت منطقة نيلوفير المرتفعة نسبيًّا بالنمو بسرعة في تسعينيات القرن الماضي، واحتلّت جزءًا هامًّا من السهل. وتوسعت المدينة فيما بعد إلى المدن الشرقية مثل كيستيل وغورسو، ولا تزال تنمو في الشمال والشمال الغربي.

ومن المثير للسخرية أن بورصة، المعروفة باسم عاصمة السيارات في تركيا، تواجه مشكلةً مروريةً تتفاقم. في حين أن المدينة القديمة ليست المكان المثالي للقيادة في شوارعها الضيقة وبين التضاريس الجبلية، يبدو أن حركة المرور هي الطريقة الوحيدة للتنقل في باقي أنحاء المدينة. هناك أيضًا قطارا تراموي في المدينة، أحدهما يعمل حول قلب المدينة القديمة والآخر في المحور الشرقي الغربي لها. يوجد في المدينة نظام سكك حديدية خفيف بطول 39 كيلومتر على خطين، يربط بين حرم جامعة أولوداغ في أقصى موقعٍ في المدينة إلى أقصى شرق منطقة كيستيل ووسط المدينة مع المناطق الصناعية في الشمال الغربي، وهناك خط ثالث قيد الإنشاء، لكن أنظمة السكك الحديدية هذه قد تمَّ بناؤها على ممرات الطرق السريعة المتجهة إلى إزمير وأنقرة ومودانيا، وبالتالي لا تمثل سوى مجرد بديل لتوسعة المدينة التي تركز في حركة المرور على الطرق.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!