د. علي حسين باكير - القبس الألكتروني

يحظى السودان مؤخراً باهتمام خاص من قبل المسؤولين الأتراك، لا سيما بعد الأزمة الخليجية التي اندلعت في يونيو من عام ٢٠١٧، ورفع العقوبات الأميركية التي كانت مفروضة عليه في ذلك العام.
والثلاثاء الماضي زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار السودان، والتقى في الخرطوم الرئيس عمر البشير وعددا من المسؤولين، كما عقد خلال الزيارة اجتماعات مكثفة مع نظيره السوداني عوض محمد بن عوف، بالإضافة الى رئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق أول كمال عبد المعروف، حيث ركز البحث بين الجانبين، التركي والسوداني، على العلاقات الدفاعية والتعاون العسكري المشترك، كما تمّ التطرّق إلى الأعمال الجارية في جزيرة سواكن، التي زارها أكار شخصياً للوقوف على وتيرة العمل فيها.

وتنظر أنقرة الى الشراكة مع الخرطوم باعتبارها واحدة من أهم الشراكات الصاعدة في أفريقيا، وتعكس الزيارات الرسمية الرفيعة المستوى والمتبادلة خلال العام الماضي الزخم الحاصل في طبيعة العلاقة بين الطرفين والاهتمام المشترك في تطوير التعاون الاستراتيجي بينهما.

ففي ديسمبر من عام ٢٠١٧، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السودان على رأس وفد رفيع ضمّ حوالي ٢٠٠ رجل أعمال، ووصفت الزيارة بالتاريخية، وشهدت توقيع ١٢ اتفاقية في مجالات سياسية واقتصادية وعسكرية، على رأسها بروتوكول إنشاء المجلس الأعلى الاستراتيجي بين البلدين. ووفقاً لبعض المصادر، فقدّ اتفق الجانبان على زيادة التعاون في الصناعة والنقل والتكنولوجيا وتنمية البنية التحتية بشكل خاص، بالإضافة الى العمل على زيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة، وذلك انطلاقاً مما تمتلكه تركيا من إمكانيات في هذا المجال.

خلال تلك الزيارة، عرض الجانب التركي إعادة اعمار وتطوير جزيرة سواكن التاريخية التي تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر والتي تبلغ مساحتها حوالي ٢٠ كيلومترا مربعا، ولعبت تلك الجزيرة في العهد العثماني دوراً محورياً في الاستراتيجية البحرية للدولة العليّة، حيث كانت مقرّاً لحاكم «مديرية الحبشة العثمانية» في عهد السلطان سليم الأول، ثم للحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي ١٨٢١ – ١٨٨٥، وتالياً مقرّاً للبحرية العثمانية.

وبسبب رمزيتها التاريخية، أثارت الخطوة التركية حساسية بعض القوى الإقليمية كمصر والسعودية، لا سيما مع الحديث المتزايد عن إمكانية إعادة إحياء ميناء الجزيرة ليصبح قاعدة عسكرية بحرية تسمح لتركيا بالتواجد على ممر مائي حيوي في البحر الأحمر.

وفيما تنفي مصادر رسمية سودانية أن يكون قد تمّ الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية للبحرية التركية في سواكن، يمكن تفسير هذا النفي على أنّه محاولة لاحتواء ردود الأفعال السلبية من بعض القوى الإقليمية، وأنّ خيار التواجد البحري التركي في سواكن يبقى قائماً في المستقبل.

وتعكس زيارة خلوصي أكار الأخيرة الاهتمام الكبير الذي تبديه أنقرة بالسودان مؤخراً، فالأخير بلد عربي في عمق أفريقيا وعلى تماس مع منطقة الشرق الاوسط عبر البحر الأحمر، وهو ملتقى تقاطع سياسي واقتصادي وعسكري أيضاً للعديد من القوى الإقليمية المتنافسة كما هو الحال بالنسبة إلى التقاطعات الجيوسياسية التي يمثّلها.

زيادة النفوذ في أفريقيا

تشكّل هذه المعطيات فرصة مثالية للجانب التركي الذي يسعى إلى زيادة نفوذه في عمق القارة الأفريقية وملء الفراغ الموجود في العالم العربي من خلال معادلة قائمة على الربح المتبادل. وعلى الرغم من انّ هناك من يشير الى انّ الجانب التركي ضحى بمصالح كثيرة من خلال موقفه المبدئي في الأزمة الخليجية الأخيرة، فإن آخرين يجادلون بأنّ موقف أنقرة قد فتح لها آفاقاً جديدة. ففي الوقت الذي باتت فيه دول المنطقة أكثر تشكيكاً في الالتزامات الغربية المقدّمة لها، لا سيما على المستوى الاقتصادي والأمني تحديداً، ظهرت تركيا بمظهر الشريك القادر والملتزم بدعم حلفائه عند الشدائد، وهذا بحد ذاته مكسب استراتيجي.

نشر قواعد متقدمة

وتستغل أنقرة هذا الجانب في محاولة منها لتوسيع نطاق استراتيجيتها المتمثلة في نشر قواعد عسكرية متقدّمة في عمق محيطها الملتهب وغير المستقر في الشرق الأوسط. لتركيا اليوم قواعد عسكرية في قبرص، والعراق، وسوريا، وقطر. ويحظى الصومال بأكبر قاعدة تدريب عسكرية تركية على الإطلاق. وفي هذا السياق، تشير بعض المصادر الى انّ الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع التركي الى السودان شملت أيضاً بحث إقامة قواعد عسكرية للتدريب.

تتيح هذه القواعد العسكرية المتقدمة بناء شراكات دفاعية وأمنيّة بين تركيا والدول المستضيفة، فهي تعزز الثقة المتبادلة وتسمح بتطوير قدرات الشركاء على مستوى مكافحة الإرهاب والجهوزية الدفاعية في منطقة ممتلئة بالصراعات، كما تسمح برد فعل أسرع إزاء التهديدات المتعاظمة، وتؤمّن منطقة نفوذ متزايدة لتركيا ومنافع للدولة المستضيفة على اعتبار انها تأتي ضمن سياق أوسع يشمل شراكات سياسية واقتصادية أيضاً، وتزايد الانخراط التركي تأكيد إضافي على أنّ الشراكة الناشئة مع تركيا ستترك منافع اقتصادية أيضاً للجانب السوداني.

ويقف حجم التبادل التجاري بين تركيا والسودان حاليا عند حدود ٤٨١ مليون دولار، وهو رقم صغير مقارنة بالقدرات الموجودة لدى الطرفين اللذين يعتقدان أنّهما قادران على رفعه الى حدود ١٠ مليارات دولار مستقبلاً. ولتحقيق تقدّم في هذا المجال، وقّع وزير التجارة السوداني ونظيره التركي اتفاقاً في يوليو الماضي يهدف الى رفع التبادل التجاري الى ٢ مليار دولار كمرحلة اولى. وفي سبتمبر ٢٠١٨، وقّع الطرفان اتفاقاً بقيمة ١٠٠ مليون دولار للتنقيب عن النفط، بالإضافة الى اتفاق آخر يخصص حوالي ٣ آلاف ميل مربّع من الأراضي الزراعيّة السودانية للشركات الخاصة التركية لكي تستثمر فيها بما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي لتركيا والسودان ودول ثالثة يُعتقد أنّ دولة قطر من بينها.

وفي هذا السياق، يشكّل السودان كذلك محطّة إضافية للتعاون المشترك التركي – القطري. فبعد الاجتماع الثلاثي الذي شهدته الخرطوم بين وزراء دفاع هذه الدول في ديسمبر ٢٠١٧، تبادلت الخرطوم وانقرة والدوحة زيارات المسؤولين على مستويات رفيعة، وشهد شهر ماس الماضي تكثيفاً للتعاون الثلاثي، حيث وقّع السودان اتفاقا مع تركيا لبناء مطار الخرطوم الجديد بتكلفة ١.١٥ مليار دولار، واتفاقاً آخر مع قطر بقيمة ٤ مليارات دولار لتطوير ميناء الجزيرة ولتطوير التعاون المشترك في مجال النقل والاتصالات.

ويأمل الجانب التركي من خلال تأسيسه لنموج شراكة استراتيجية مع السودان في أن تتقدّم المزيد من الدول الصديقة للمساعدة على تحقيق شراكات مماثلة، لا سيما في أفريقيا والشرق الاوسط حيث يتزايد الفراغ الناجم عن تراجع الدور العربي وسط تعاظم الدور الخارجي الإقليمي والدولي المتمثل في إيران وروسيا على وجه الخصوص.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس