طالب الدغيم - خاص ترك برس

يقول المثل العربي: "خلق الله الانسان الأول من الطين وخلق الخيل من الريح". والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة إشارة إلى رفعة مكانة الخيول العربية التي أصبحت رمز الجمال الروحي والجسماني، فأسبغ عليها الفارس العربي الحب والمودة، وأسرت وقته وحياته على مر الأزمان.     

سورية أول منطقة في العالم عاشت فيها الخيول العربية الأصيلة بشهادة أعضاء المنظمة العالمية للجواد العربي. حيث يرتبط الجواد السوري الأصيل بشجرة عائلة تعود لأكثر من مائتي عام على الأقل. وسورية هي الدولة الوحيدة في العالم التي سُجل فيها نسب الحصان إلى العشيرة التي ينتسب إليها، فلا يوجد كِتاب أنساب في العالم للجياد العربية يعود إلى عائلته ورسنه أكثر من الخيول السورية الأصيلة.

ومن الأرسان النادرة في سورية (دهمان عامر، وعبيان شراك، وهدبان انزحي)، وقد مُنع تصدير هذه الأرسان المذكورة ما لم يتجاوز عدد الإناث في كل سلالة 5 إناث، ورغم أن سعر الجواد العربي الأصيل عند المربين لا يقدر بثمن فإن غلاء سعر هذا الجواد يتعلق بعمره ولونه ورسنه وجنسه، ورصيده أو رصيد أبيه وأمه في ربح السباقات، ويُعد اللون الأدهم (الأسود) عند المربين السوريين هو اللون الأغلى ثمناً.

ففي منطقة حوران، فقد رافق الخيل الإنسان الحوراني منذ منتصف القرن العشرين، واستخدمه كوسيلة ركوب وزينة وتفاخر وسباق ومتعة. وسردت الأدبيات التاريخية قصص الأعراس الحورانية، والأعياد والمناسبات. فقد كانت النساء تصطف على جانب ميدان السباق من طرف والرجال من طرف آخر. ويبدأ الفتيان بثيابهم الجديدة، وزيهم العربي الحوراني بالتسابق على خيولهم الأصيلة. جميع تلك الخيول من السلالات العربية الأصيلة المعروفة، ومنها: الكِحيلة والصكلاوي والمعنقي وأم عرقوب والعبية والجدرانيات والشراقيات وغيرها. وكان يُنظم هذا السباق الذي يبعث البهجة والفرح والحماس بعض الشباب من ذوي الخبرة من المنطقة ذاتها. وفي مضمار السباق، تزغرد الصبايا والعذارى، ويُصفق الرجال، والجميع يُسمعون الفرسان عبارات الثناء والمديح والحماس. فتنطلق الخيول كالريح تثير الغبار، سابحة في عَرقها المتصبب من جسدها الناعم النظيف، حتى فوز أحد الأطراف لتُعاد بعد السباقات إلى حظائرها الملوكية الخصبة. وكما استخدم الخيل الحوراني لاستقبال كبار رجال البلد أو الضيوف كما فعل أهلها مع عمر بن الخطاب عن زيارته لها بعد فتح الشام، وقد تقبل مواكبهم المزدحمة بالخيول الأصلية، لعلمه أنها إحدى أهم عادات سكان الجنوب الشامي التي يفخرون بها.

ظل الخيل مفخرة سكان مناطق حوران، بدواً وحضراً، ومبعث مجدهم وحديث مجالسهم، عليها يقطعون السباسب، وعلى ظهورها يطيرون إلى مستغيثهم، محملين بالأسلحة فُرساناً وشجعاناً، وللخيل إكراماً وتكريماً، وإذا اشترى الإنسان الحوراني فرساً أصيلة أو أنتجت الفرس كذلك، يذبح كبشاً من الغنم ويدهن بدمه قوائم الخيل الجديد، وشعر ناصيته. وبقي سكان حوران يعتنون بتربية الخيل، وحفظ أنسابها وأرسانها.

كان للخيل دولة واعتزاز وتقدير لا حدود له حتى أربعينيات القرن العشرين. ومن ثم استراح الفلاح الحوراني من سطوة البداوة، وعصفت به رياح الحداثة، لما وجدت السيارة، وبدأ يملكها الأفراد لسرعتها وراحتها ورفاهها، فهنا دالت دولة الخيل، وضعفت الرغبة باقتنائها، فكان الانتقال من الخيل إلى السيارة بداية مرحلة التحول الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الذهنية الحورانية والسورية بشكل عام.  

ومع ذلك استمرت تربية الخيول وعقد سباقاتها في البوادي والأرياف والأندية السورية حتى مطلع ثورة الكرامة عام 2011، فأهملت مزارع الخيل، وحوصرت في أقواتها كما حوصر فرنسانها ومربيها أنفسهم في حمص والغوطة الدمشقية وحوران وحلب والجزيرة السورية من قبل قوات النظام وميليشياته، وطالت أيديهم تلك المزارع بالسرقة والقتل والتخريب، وضاعت مكانة الخيول وهيبتها، وقيل إن خيول غوطة دمشق بيعت بمزادادت رخيصة لا تتجاوز ألوف الليرات السورية. فالحرب الطاحنة وبطش النظام وحلفائه قتل كل حياة جميلة، وحتى الخيول الأصيلة، ضاعت دفاتر أنسابها، وفقدت جمالها ودورها في تزيين المهرجانات والمعارض والفعاليات الشعبية والرياضية وغابت عن مواسم السير الربيعية كل سنة.   

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس