إحسان حماد - خاص ترك برس

  أزعم أن الإجابة عن هذا السؤال يعجز عن تقديمها شخص بعينه مهما بلغت خبرته الفنية والعلمية بتدريس العربية في تركيا، ذلك أن الإجابة عليه تقتضي أن يعمل على تقديمها فريق متخصص في مجال اللغة والإحصاء حتى تقترب من الدِّقة والحقيقة. لكن خُلو الساحة من دراسة علمية جادة تُقوِّمُ تجربة المدرسين العرب ذات السبع سنين هي التي دفعت بكاتب المقال على أن يقوم بذلك مستندا في المقام الأول على خبرته الممتدة لأكثر من عشرين عاما في تدريس العربية كان لتركيا نصيب لها من أعوامه العشرين، علّ هذا المقال أن يكون حافزا في المدى القريب أو البعيد لبعض مراكز الدراسات العلمية أن تضطلع بدورها وتقوم بدراسة تكشف فيها عن أثر المدرّسين العرب في تدريس العربية بتركيا.

ليس غريبا ألّا تكون لتجاربنا – مهما بلغت أهميتها – تقويم يقف عند سلبياتها وإيجابياتها، فلقد مرّت بنا انتكاسات لم تظهر فيها دراسة رصينة واحدة تقف عند أسباب تلك الانتكاسات ونتائجها سوى بعض المقالات من هنا وهناك تعالج زوايا محدّدة منها. وما يُقالُ عن انتكاساتنا من حيث مبدأُ التقويم يُمكن أن ُيقال عن تجربة تدريس العرب للعربية في تركيّا بعد سبع سنين في قطاعات التعليم المختلفة (مدارس الأئمة والخطباء، كليات العلوم الإسلامية، ومدارس العلوم الشرعية الممتدة في ربوع تركيا وخصوصا شرقَها) أنجحت أم أخفقت؟ وما المعايير التي يُحكم من خلالها على نجاحها أو إخفاقها؟ لست قادرا على إعطاء حكم قاطع على ذلك - كما أسلفت - لكني سأسلط الضوء على عدّة عوامل قد يُفضي الاطلاع على واقعها إلى أن يَخلُص القارئُ منها إلى إجابة واضحة عن الأسئلة المطروحة.

العامل الأول: الأساتذة الأتراك المشرفون على تعليم العربية ومَنْ بيدهم رسم سياسات تعليمها، و المدرسون القائمون على تعليمها. 

ربما لا نُجافي شيئا من الحقيقة إنْ قلت إنّ الحرب التي شُنت على ثقافة الشعب التركي وهويته بعد إلغاء الخلافة لم تعرفها أمة من الأمم، ففي ليلة واحدة أضحى الشعب التركي مبتور الصلة بماضيه وتاريخه، ولم تكن الحرب المعلنة من قبل أعداء حاقدين فقط، بل كان إشعال فتيلها على أيدي أناس نبتت أجسادهم على أرض الإسلام وتشربت عقولهم ثقافة غريبة عنه فكانوا أشد على الأتراك من عدوهم. فجعلوا اللغة العربية هدفهم الأول للقضاء على ثقافة الأتراك وتحطيم مبادئ الإسلام من نفوسهم حتى ينشأ جيل لا يعي فهم القرآن ولا سنة نبيه، وخير شاهد على ذلك ما جاء على لسان الشاعر ضياء كوك ألب حين قال: من أراد أن يتعلم العربية فليذهب إلى بلاد العرب، ومن أراد أن يتعلم الفارسية فليذهب إلى بلاد فارس. ورغم تلك الحرب المسعورة التي دامت تسعين سنة، استُخدِمت فيها شتى وسائل التغريب والتشويه لهوية الأتراك إلا أنها لم تُفلح في اجتثاث هويتهم وتراثهم من نفوسهم، فقد تصدّت ثلّة صادقة  لتلك الحرب أخذت على عاتِقها المحافظة على اللّغة العربية حتى يبقى الجيل على مقربة من تُراثه، ووثيق الصلّة فيه. كانت تلك الثلة تُنافح عن تراث الأتراك وحدها دون أن يكون معها نصير ولا ظهير من أحد، وقد أفلحت تلك الجهود بأن ظلت الصلة قائمة لم تنقطع بين العربية والأتراك، بيد أنّ تلك الجهود اعترتها بعض الملاحظات التي حالت دون أن تؤتي أُكلَها على الوجه المُطلوب منذ أن بدأتْ وإلى وقتنا الرّاهن.

- أولى تلك الملاحظات: هو اهتمام الأتراك المُفرِط بالنّحو والصرف, فمنذ أنِ انطلقت جهود اهتمامهم بالعربية قصروا جُلّ اهتمامهم على النّحو والصرف دون الالتفات والعناية بالمهارات الأخرى: المحادثة، والقراءة، والكتابة والإنشاء - مع أنّ الدافع وراء نشأة علم النّحو الحفاظُ على تلك المهارات – ممّا أدّى إلى أن تكونَ مخرجاتُ التعليم في العربية قديما وحديثا ضعيفة بمجملها غيرَ قادرةٍ في التّواصُل مع الآخرين كتابةً ومحادثةً، ولا تُحسنُ قراءة أوفهم الكتب العلميّة والتراثية العربيّة، فالطّالب الذي يدرس اللغة العربية في المدارس الرسمية على وجه الخصوص لا تتجاوزُ معرفته باللغة العربية سوى بِضع قواعدَ من النحو لا تنفعه ولا تُفيده في شيء لأنه لم يتعلم كيف ومتى يستخدمها، فمعظمُ قواعدِ النّحو التي يدرُسها تُركِّزُ على الجانب الإعرابي وليس الوظيفي. في سلسلة من سلاسل النّحو والصّرف التعليميّة التي أصدرتها إِحدى كُـليّات العلوم الإسلاميّة المرموقة في تُركيّا ورَد فيها عند الحديث عن الأحرف المُشبَهة بالفعل المثالُ الآتي: لكنّ أنقرة مزدحمة، دونَ أن يُورِدَ الكتابُ قبل "لكنّ" جُملةً توضّح أنّ المقصود من استخدام "لكن" هو الاستدراك، لأنّ الهدف الذي ركّزت عليه هذه السلسلة ومثيلاتها هو العمل الإعرابي لهذه الاحرف بأنها تنصب المبتدأ وُيسمّى اسمَها وترفع الخبر ويسمّى خبرَها مُغفلة جانب المعنى فيها.

ثاني تلك الملاحظات: عدم وجود رؤية منهجية شاملة لدى القائمين على تعليم اللغة العربية في المؤسسات التعليمية الرسميّة وغير الرسميّة في تركيا تتناول أقطاب العملية التعليمية الثلاثة: المعلم، والطالب، والمقرر التعليمي، ومن الملاحظ أنّ القائمين على العملية التعليمية يُولـون المُقَرّرَ التعليميّ عناية بالغة تفوق اهتمامهم بالمعلّم والمتعلّم، فالعناية بالمعلم لا تتجاوزُ إقامة بعض الدورات الخاصة بتعلُّم العربيّة دون أن يُرافقها دورات أخرى في طرق تعليم العربية ومهاراتها أو دورات تُعينُ المعلّم على تطوير ُمستواه العلميّ والفنيّ ذاتيا. قُدّرَ لي في عام أن أقوم عام 2015 بزيارات لعدد من مدارس الأئمة للمرحلة الثانوية بتكليف من مؤسسة أكاديمية إسطنبول التي كنت أعمل فيها، لتقويم أداء المدرسين باللغة العربية، فكانت المفاجأة الأبرز لي لكل من زرت فصله من أساتذة اللغة العربية أنّه كان يؤدي درسه بغير إعداد وتحضير.

 وما يُقال عن المعلِّم يُقال أيضا عن المتعلّم  فالبرامج التعلمية التي تُقدّم للطالب تكاد تخلو من خَلْق الدافعية المادِّيةِ والمعنوية التي تُحفّز الطالب نحو تعلّم العربية، يضاف إلى تلك البرامج خلوُّها أيضا من إرشاد الطّالب نحو آليات التعلّم الذاتيّ التي تدفع به نحو تطوير نفسه في اللغة العربية حتى لا يقف عند ما درسه في قاعات الدّراسة ويجد نفسه غير قادر على التواصل في بعض المواقف العملية التي تصادفه لأن المقدار الذي درسه من اللغة قد لا يُسعفه على التواصل.

العامل الثاني: الأساتذة العرب:

1- قدّر الله لتركيّا أن تكون ملاذا لكثير من العرب الذين فرّوا من اضطهاد أوطانِهم وجورها، ولم تقتصر هجرتهم على فئة بعينها بل شملت كثيرا من الفئات على تفاوتٍ في حالتهم الاجتماعية واختلاف في مؤهلاتهم العلميّة، ومستواهم المعيشيّ، ولم يجد الكثير منهم غير اللغة العربية مهنة يرتزق منها ويلبي احتياجاته واحتياجات من يعول، وإن كان الكثير منهم لم يكن يمتّ إليها بصلة، لكن الحاجة دفعت الكثير منهم أن يلج حياض العربية حتى لا يريق ماء وجهه بذلِّ السؤال. لم يكن لهذا الأمر في بدايته عواقب تُحمد لأن للعملية التعليمية أصولا ينبغي أن تُراعى حتى تُؤتي أكلها، وخصوصا في مجال تعليم اللغة لغير الناطقين بها.

2- وإذا كان هناك عدد من الأساتذة قد قام بتدريس العربيّة دون أن يكون مُؤهلا لذلك، ففي المقابل قام كثير من الأساتذة بتدريس العربية وهو يحمِل إجازة في تدريس اللغة العربية إلاّ أن كثيرا منهم لم يألف تدريس العربية لغير الناطقين بها - الذي أصبح في زماننا اختصاصا يُدّرس في بعض الجامعات العربية – ممّا كان له أثر سلبي على تدريس الطلبة الأتراك، فاحتياج غير الناطقين بالعربية يختلف اختلافا كليّا عن احتياج الناطقين بها، فضلا عن أنّ هناك مهارات ينبغي أنْ تتوافر بمعلّم اللغة العربية لغير الناطقين لا تقف عند الكفاءة العلمية.

3- ما يُؤخذ على المدرسين العرب – من منظوري الشخصي – أنهم لم يقدِّموا للإخوة الأتراك رؤى متكاملة تشمل الأهداف التي يُرتَجى تحقيقُها من دراسة العربية في تركيا، والوسائل التي تحقق ذلك، والبرامج العملية التي من خلالها تتحقّق فيها الوسائل، آخذة بعين الاعتبار أقطاب التعليم الثلاثة (المعلّم، والمتعلّم، والمقرر)، واقتصر دورهم في غالب الأحيان على تقديم كتب وسلاسل متفرقة في مجال تعليم العربية، أُلِفّت جُلُّها بصورة منفردة ولذلك لم ترْقَ في محتوياتها إلى جودة المؤلفات التي أشرف عليها مجموعة من المختصين كالعربية بين يديك أو العربية للناشئين. وأحسب أن عدم تقديم الأساتذة العرب لرؤية متكاملة لتدريس العربية ليس نابعا من عجزهم العلميّ أو الفنيّ عن تقديم ذلك، بل نابع من الطبيعة التي نشأ عليها العرب في أوطانهم من أنّهم يُحسنِون التنافس فيما بينهم ولا يُحسنون التكامل.

وقد يُقال إنّ تدريس العربية خطا خُطواتٍ متقدمةً في السنوات السبع الأخيرة عمّا كانت عليه  في الماضي بفضل الله أولا ثمّ بفضل وجودِ العرب، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، لكنَ نجاح الأمور لا يُقاس بما كانت عليه في الماضي فقط بل الأصل فيها أن تُقاس بالأهداف التي وضعت من أجلها، أتحقّقت أم لا؟

4- من الملاحظ كذلك أنّ هناك حَساسيّةً نشأت بين الأساتذة العرب والأساتذة الأتراك الذين يدرّسون العربية، حالت دون أن ينتفع من قُدراتهم الأساتذة الأتراك وربما يكون سبب تلك الحساسيّة ناشئا من بعض تصرفات الأساتذة العرب التي شعر من خلالها عدد من الأساتذة الأتراك أنهم غير مؤهلين لتدريس العربية، أو قد تكون نشأتها نابعة منْ أنّ الأساتذة الأتراك ينظرون إلى الأساتذة العرب نظرة ندِّ ومنافسة، لا على أنّهم كفاءات يمكن أن يُستفاد منها.

ذكر لي أحد الأساتذة العرب مِنَ التركمان ممّن كانوا يقومون بدراسة الماجستير في إحدى الجامعات التركية أن العلّامة الدكتور فخر الدين قباوة أعطاه مجموعة أوراق تحوي منهجا متكاملا للكتب التي يراها الدكتور ضرورية ليدرُسها الطالب في مرحلة الماجستير والدكتوراه ليسلّمها لأحد الأساتذة المعنيين بالإشراف على تلك البرامج، ولمّا قام الأستاذ بذلك كانت الإجابة على مبادرة الدكتور: وهل يظنّنا الدكتور فخر الدين أننّا لا نفهم ولا نعرف كيف نُدّرس في الماجستير والدكتوراه!

كانت تلك محاولة جادة لمعرفة مدى نجاح العرب بتدريس العربية في تركيا بعد سبع من خلال تسليط الضوء على عامل بيده السلطة وصنع القرار يأبى في كثير من الأحيان أنْ يغيّر منهجيته في تعليم اللغة وإدخال تعديل عليها والاستعانة بأهل الخبرة والدراية، وبين عامل يملك القدرة على إحداث تغيير لكنّه يحتاج قبل كل ذلك أن يطوّر في أدائه وأن يفهم ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يعمل جاهدا على أن يتكامل فيما بينه، حتى يكون مؤثّرا وفاعلا في تعليم العربية. فماذا عسانا أن نقول بعد ذلك عن تجربة المدرسين العرب في تركيا؟

عن الكاتب

إحسان حماد

مدرس لمادتي النحو ولصرف في كلية العلوم الإسلامية بجامعة أرتوقلو


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس