د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

كانت الغنائم التي حصل عليها السلاجقة في معركة دَنَدانقان كثيرة جدّاً، وبعد انتصارهم في تلك المعركة عاد طغرل بك إلى نيسابور فدخلها مع جموع في أواخر عام (431 هـ)  وأوائل (432 هـ) (1)، ولم تنج المدينة هذه المرة من النهب، فلما أحرز السلاجقة النصر في هذه المعارك ازدادوا قوةً، ولحقت بهم جيوشهم المتفرقة في أطراف خراسان، فاشتد وقعهم في القلوب، وتقرر الملك لهم، واجتمع بعد ذلكَ الأخوان جفري بك، وطغرل بك مع عمهما موسى ابن سلجوق الذي كان يطلق عليه (بيغو)، وأبناء أعمامهم وكبار قومهم وقواد جنودهم، وتعاهدوا على الاتحاد والتعاون فيما بينهم (2).

ويقول الراوندي: ولقد سمعت: أن طغرل بك أعطى لأخيهِ سهماً، وقال له: اكسره، فتناول أخوه السهم وكسره في هوادة، ثم جمع له سهمين فكسرهما أيضاً في هوادة، ثم أعطاه ثلاثة أسهم فكسرها بصعوبة، فلما بلغ عدد السهام أربعة تعذر عليه كسرها، فقال لهُ طغرل بك: إن مثلنا مثل ذلكَ فإذا تفرقنا؛ هان لأقل الناس كسرنا، أما إذا اجتمعنا؛ فلا يستطيع أحد أن يظفر بنا، فإذا نشأ خلافٌ بيننا لم يتيسر لنا فتح العالم، وتغلب علينا الأعداء، وذهب الملك من أيدينا (3).

وجدد السلاجقة العهد لطغرل بك كقائد أعلى لجيوشهم وسلطاناً لهم على دولتهم، ورغم أن جفري بك كان أكبر منهُ سنّاً، إلا أن طغرل بك كان يتميز بشجاعته النادرة، وقوة شخصيته مع تديُّنٍ ملحوظ، وذكاء حاد (4)، وكلها صفات رجحت كفته، وهكذا قامت دولة السلاجقة (5)، وقد شملت فتوح السلاجقة الأولى خراسان، وكرمان، وأذربيجان، وهمدان، وجرجان، فقسموا هذه الولايات التي كانوا قد استولوا عليها فيما بينهم (6)، وكانت بلخ من أقوى مراكز السلاجقة في الشرق، ونيسابور في الغرب، ومن هذين المركزين أخذ نفوذهم في الانتشار والتوسع (7)، وقد اختار طغرل بك مدينة الري لتكونَ حاضرة ملكه (8).

ومن أجل تنظيم إدارة الدوله قسمها السلاجقة إلى أقاليم، وعينوا على كل إقليم منها حاكماً من أفراد البيت السلجوقي، أطلقوا عليهِ لقب (شاه) ، و(ملك) ، وأما الرئيس الأعلى للدولة بأجمعها، فأطلق عليهِ لقب (سلطان) ، وكانت لهُ الكلمة النافذة في جميع أنحاء الدولة، وبهذا التنظيم وطد طغرل بك سلطته في تلك البلاد، وضمن الوحدة بين أفراد أسرته، لقد كان إخوة طغرل بك وأبناؤهم يتولون الحكم في أطراف البلاد تحت سلطته (9)، ومذهبهم السياسي في الحكم أنهم كانوا يعدون المناطق المفتوحة ملكاً لأفراد الأسرة المالكة، ولم يعمل طغرل بك على إقامة حكم فردي ينحصر في شخصه، بل أوكل حكم المناطق التي تدخل في حوزة السلاجقة حديثاً إلى المقربيـــــــــن من آل سلجوق ، وترك لهم سلطة الحكم كاملة، هدفه من ذلك الإبقاء على الترابط والوحدة بين طغرل بك، وإخوته، وأبنائهم.

وهكذا يتضح بشكل جلي الطبيعة القبلية في سلوك السلاجقة وحبهم للرئاسة والجاه، وقد حاول طغرل بك زعيمهم إرضاء هذه النزعة فعينهم حكاماً وقادةً وملوكاً، لكل منهم جيشه الخاص، ووزيره، وحجابه، ومعاونوه في الحكم والإدارة، كما حرص السلاجقة على تكريم علماء الدين، وشيوخ الصوفية كي يثنوا عليهم ويزداد حكمهم قوة (10)، ومع ذلك فإن تقسيم الدولة إلى ولايات شبه مستقلة أصبح شرّاً في عهد ضعف السلاجقة، وكثرة المنازعات في أرجاء الدولة، مما ساعد على تمزقها، وسرعة انهيارها وزوالها (11).

وبعد أن وطّد طغرل بك أركان دولته، وأرسى قواعدها لم يبق سوى الحصول على اعتراف من الخليفة به؛ ليُـكِسب سلطته الصفة الشرعية في أعين المسلمين، لذلك أنفذ في عام (432 هـ) رسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله؛ حملها إليهِ أبو إسحاق القفاعي (12)، تضمنت ولاء السلاجقة لهُ، وتأكيد تمسكهم بالدين الإسلامي، والتزامهم بالجهاد في سبيل الله، وحبهم للعدل، والتماسهم الحصول على اعتراف الخليفة بقيام دولتهم (13).

وكان السلاجقة في أشد الحاجة للدعم المعنوي من الخليفة العباسي صاحب النفوذ الروحي على العالم الإسلامي السني، وكانت نوعية هذه العلاقة بين السلاطين، والخلفاء من ثقافة ذلكَ العصر الذي ضعفت فيهِ مؤسسة الخلافة وتقلص نفوذها وسلطانها وصلاحياتها، وهي ظاهرة مرضية في الأمة.

وقد جاء في هذه الرسالة ما نصه: «نحنُ معشر آل سلجوق أحطنا دائماً الحضرة النبوية المقدسة، وأحببناها من صميم قلوبنا ، ولقد اجتهدنا دائماً في غزو الكفار ، وإعلان الجهاد، وداومنا على زيارة الكعبة المقدسة، وكان لنا عَمٌّ مقدم محترم بيننا اسمه إسرائيل بن سلجوق، فقبض عليه يمين الدولة محمود بن سبكتكين بغير جرم، أو جناية وأرسله إلى قلعة كالنجرد ببلاد الهند، فقضى في أسره سبع سنوات حتى مات، واحتجز كذلكَ في القلاع الأخرى الكثير من أهلنا وأقاربنا، فلما مات محمود وجلسَ في مكانه ابنه مسعود لم يقم على مصالح الرعية، واشتغل باللهو والطرب، فلا جرم إذ طلب منا أعيان خراسان، ومشاهيرها أن نقوم على حمايتهم، ولكن مسعود وجه إلينا جيشهُ فوقعت بيننا وبينهُ معارك تناوبناها بين كر وفر، وهزيمةٍ وظفر، حتى ابتسمَ لنا الحظ الحسن، فانحاز إلينا آخر مدد لمسعود ومعهُ جيش جرار، وظفرنا بالغلبةِ بمعونةِ اللهِ عزَّ وجل، بفضل إقبالنا على الحضرة المقدسة المطهرة، وانكسر مسعود وأصبح ذليلاً وانكفأ علَمه، وولى الأدبار تاركاً لنا الدولة والإقبال، وشكراً للهِ على ما أفاء به علينا من فتح ونصر، فنشرنا عدلنا وإنصافنا على العباد وابتعدنا عن طريق الظلم، والجور، والفساد، ونحنُ نرجو أن نكون في هذا قد نهجنا وفقاً لتعاليم الدين وولي الأمر أمير المؤمنين» (14).

وما إن وصلت هذه الرسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حتى سُرَّ بها غاية السرور، وأظهر رغبتهُ في التقرب إليهم، وبادر بإيفاد رسول إلى السلطان طغرل بك الذي كان في مدينة الري سنة (435 هـ) ، وكان ذلكَ الرسولُ هو أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، وقد تضمنت الرسالة رغبة الخليفة العباسي في عقد صلح بينه وبين الأمير البويهي أبي كاليجار (15)، وتقبيح ما فعل أصحابهُ من فساد في معاملة الرعية، كما أمر الخليفة رسوله أن يتقرب على طغرل بك ويدعوه للحضور إلى دار الخلافة في بغداد (16)، فضلاً عن الرسالة فقد كان الماوردي يحمل معهُ إلى طغرل بك الخلع السلطانية التي منحها إياه الخليفة، مع كتاب تفويض بحكم البلاد (17)، وعاد الماوردي إلى بغداد سنة (436 هـ)  بعد أن مكث مدة عام في جرجان (18)، فأخبر الخليفة عن طاعة طغرل بك له، وتعظيمه لأوامره، والتزامه بها (19)، كما أرسل طغرل بك إلى الخليفة مع المارودي عشرين ألف دينار (20)، لقد كان لاعتراف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة أثر كبير في تقرب السلاجقة من الخلافة العباسية، فأخذت العلاقات بين طغرل بك، والخليفة العباسي القائم بأمر الله تتوطَّد على مَرِّ الأيام، كما كان لهذا الاعتراف أثر في اكتمال الكيان الشرعي لدولة السلاجقة أمام المسلمين الخاضعين لسلطتهم في المشرق (21) .

المصادر والمراجع:

([1])  تاريخ البيهقي، ص 695 ، الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 128.

(2)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 128.

(3)  راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية، محمد بن علي بن سليمان الراوندي، ص 165.

(4)  النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي،  نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 128.

(5)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 128.

(6)  المصدر السابق نفسه ص 129 ، تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم، (4/10).

(7)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 129.

(8)  راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية، محمد بن علي بن سليمان الراوندي، ص 104، الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 129.

(9)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 130.

(10)  إيران العراق ، حسنين ، ص 41.

(11)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 130.

(12)  دولة آل سلجوق، العماد الأصفهاني البنداري، ص 8 ، الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 131.

(13)  راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية، محمد بن علي بن سليمان الراوندي، ص 166 ، 167 ، الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 131.

(14)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 131.

(15)  المصدر السابق نفسه ، ص 132.

(16)  راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية، محمد بن علي بن سليمان الراوندي، ص 168 ، دولة ال سلجوق ، ص 8.

(17)  المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 134.

(18)  المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي ، نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 134.

(19)  وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، (2/400).

(20)  المنتظم، نقلاً عن قيام الدولة السلجوقية ، ص 132.

(21)  الدولة السلجوقية منذ قيامها حتى سنة 455هـ / 1063 م، سميرة الجبوري، ص 133.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس