علي حسين باكير - عربي21

عندما انطلقت عملية "نبع السلام" التركية شمال شرق سوريا، تبنّت إيران موقفاً مزدوجاً من العملية. ففي مكان ما، حاول المسؤولون الإيرانيون أن يظهروا للجانب التركي أنّهم سيتعاملون بإيجابية مع العملية، وأنّهم يتفهّمون تماماً المخاوف التركية النابعة عن الوضع الناشئ شمال سوريا وانعكاساته على الأمن القومي التركي. لكن في المقابل، قام عدد منهم بشن هجوم على تركيا والرئيس التركي وكذلك فعلت العديد من الصحف الإيرانية ووسائل الإعلام والنخب التي اعتبرت أنّ ما يجري هو احتلال وغزو لسوريا وأنّه يصب في خانة دعم الإرهاب والإرهابيين. كما كان واضحا كذلك محاولة استغلال العملية من أجل اللعب على الورقة الكردية داخل إيران للإيحاء بأنّ النظام الإيراني يدافع عن الأكراد في وجه الاعتداء التركي.

ازدواجية إيرانية قديمة

مثل هذه الازدواجية الإيرانية ليست جديدة بطبيعة الحال، لكن الجديد هو أنّ الجانب التركي بات منذ فترة وجيزة يتابع عن كثب ما يجري داخل إيران ولا يمكن أن يُخدع بتصريح لمسؤول هنا أو هناك. الخط العام داخل إيران لم يكتف برفض العملية وإنما شرع بمهاجمة تركيا والرئيس التركي شخصيا وهو ما أدى إلى رد فعل مقابل أيضا. قبل سفره إلى سوتشي الروسية للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عدّة أيام، انتقد أردوغان الموقف الإيراني بشدّة مطالباً نظيره الإيراني بإسكات الأصوات المزعجة التي تصدر من داخل النظام، لافتاً إلى انّ مثل هذه التصريحات والمواقف من شأنها أن تطعن في التنسيق الحاصل بين البلدين وروسيا في الأزمة السورية. 

"مهر نيوز" الرسمية اعتبرت الانتقادات الموجّهة لتركيا ورئيسها من المسؤولين الإيرانيين والإعلام الإيراني "من مظاهر الديمقراطية وحرية البيان والتعبير". أما صحيفة "جمهوري إسلامي" فقالت: إنّ أردوغان عاد خالي الوفاض من سوتشي، في إشارة إلى أنّه خسر لأنّ الجانب الروسي أبلغه بشكل واضح أنّه لا يمكن إبقاء القوات التركية داخل الأراضي السورية دون موافقة دمشق. وزعمت صحيفة "جوان" المقربة من الحرس الثوري أنّ المعلومات الاستخباراتية الإيرانية هي التي أنقذت أردوغان إبان الانقلاب عام 2016، وأنّه نسي على ما يبدو هذا الجميل! 

في جميع الأحوال، تظهر المواقف الإيرانية وجود خلاف لا تعكسه اللقاءات الرسمية بين الطرفين. من الواضح أنّ الجانب الإيراني منزعج من اللاعب التركي، ويخشى كذلك من إمكانية حصول صفقات تطيح بموقعه أو دوره، وهذا ربما ما يفسر كذلك الموقف الإيراني الفاتر من الاتفاق التركي-الروسي والترحيب الحذر به. بعد جلسة استمرت حوالي ست ساعات بين الرئيس التركي ونظيره الروسي، خرج الطرفان باتفاق مشترك يقوم على عشر نقاط. البعض يشير إلى أنّ لا شيء في الاتفاق يتعارض مع مصالح إيران، وأنّ أولوية ومصلحة إيران كانت تقتضي خروج الجانب الأمريكي من شمال سوريا -وهو الأمر الذي تحقق للمفارقة عبر الجهد التركي- وهو ما حصل بالفعل. 

الاتفاق التركي-الروسي وحسابات طهران

وفقاً لما ذكره المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، فإنّ طهران ترى في الاتفاق خطوة إيجابية نحو استعادة الاستقرار والسلام في هذه المنطقة. لكن هناك وجهة نظر أخرى تقول بأنّ الجانب الإيراني وبخلاف ما يشاع، كان منزعجاً للغاية من العملية العسكرية التركية وكذلك من الاتفاق التركي-الروسي، وذلك لعدّة أساب لعل أهمّها:

أولا ـ أنّ طريقة إخراج الاتفاق تعطي الانطباع بأنّ إيران هي قوّة من الدرجة الثانية في سوريا وأنّ القرار الأهم موجود عند روسيا وليس عند طهران أو الأسد. مثل هذا الانطباع لا يلقى قبولاً حسناً عند الإيرانيين، إذ إنّ طهران كانت ولا تزال ترفض أن تظهر بمظهر اللاعب من الدرجة الثانية في سوريا. بدأت هذه الحساسية في التزاحم حول الأدوار تطفو إلى السطح بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015، وهي لا تزال مستمرة، أضيف إليها لاحقاً تزايد الدور التركي في سوريا والعراق.

ثانيا ـ صحيح أنّ إيران لا تريد لأمريكا أن تتواجد في شمال سوريا، إلاّ أنّها تعلم تماماً أنّ الأمريكيين أو الروس سيرحلون يوماً ما عاجلاً أم آجلاً لأنّهم ليسوا أبناء المنطقة، لكن تركيا لن ترحل وإن رحلت لاحقاً. بمعنى آخر، الإيرانيون لا يريدون أن يستبدلوا مقيماً مؤقتاً بآخر مستقر خاصة إذا كان تركيا، الغريم التقليدي والمنافس الدائم. يعد هذا الأمر أحد أهم أسباب انتقادهم للعملية العسكرية على الأرجح، فالعملية ستؤسس لنفوذ تركي في شمال سوريا حتى بعد الانسحاب المفترض، وهذا لا يناسب إيران.

ثالثا ـ تزداد مؤخراً خشية إيران من اتفاقات سرية مع ازدياد وتيرة الاجتماعات الثنائية والمتعددة الأقطاب بين الفاعلين الرئيسيين المعنيين بالملف السوري، كروسيا وإسرائيل، وروسيا وتركيا، وأمريكا وإسرائيل، وأمريكا وتركيا، لكن إيران مغيّبة قسراً عن مثل هذه الاجتماعات. حتى في المنصات التي تكون إيران جزءً منها، يتم إجراء مفاوضات ثنائية كما جرى مؤخراً بين أردوغان وبوتين. مثل هذه المنصّات، تثير خشية الجانب الإيراني من امكانية حصول صفقات سريّة تستهدف دور إيران في سوريا والمنطقة. 

رابعا ـ خسارة إيران لورقة "بروتوكول أضنة". فبعد أن كانت طهران تطمح إلى أن تكون صلة الوصل بين تركيا ونظام الأسد من خلال هذا الاتفاق لكي تحجز لنفسها دوراً في الأحداث الجارية في شمال سوريا، يبدو أنّ روسيا لا تزال تحتكر هذه الورقة، مما يحرم إيران من دور سياسي محتمل كذلك.

باختصار، وإن كانت إيران مستفيدة ربما من الاتفاق بشكل غير مباشر في مكان ما، فإنّ الاتفاق لا يخدم بالضرورة مصالح إيران على ما يبدو. فضلاً عن ذلك، فإن القوات الأمريكية لم تخرج تماماً من سوريا حتى الآن، وأحد أسباب ذلك على ما يبدو الرغبة في صد التمدد الإيراني.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس