د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

لا شك أنّ البحث في تاريخ العالم العربي الحديث والمعاصر يظلّ منقوصًا، بل قاصرا جدًّا إذا لم يستند صاحبه إلى الوثائق المهمّة التي يزخر بها الأرشيف العثماني في اسطنبول. هذا الأرشيف الذي يضم نحو 150 مليون وثيقة، وهو بذلك يعد من أكبر دور الوثائق في العالم وأضخمها. وإلى حد الآن تم تصنيف نحو 50 بالمائة من هذا الكم الهائل، أي ما يقارب الـ75 مليون وثيقة، وهي متاحة للباحثين للاطلاع عليها وأخذ نسخ رقمية منها. فأين وصلت عمليات التّصنيف في الأرشيف؟ وما حجم الوثائق العربية فيه؟ وهل تمت الاستفادة من هذا الكنز الكبير؟

عمليات التّصنيف

يقع مبنى الأرشيف العثماني في منطقة "كاغط خانه" التي تبعد عن مركز مدينة اسطنبول بنحو 15 كم. وهو مبنى كبير وذو طباع معماري إسلامي، ومجهّز بأحدث التقنيات، ويعمل به فريق كبير من الباحثين والمتخصصين يزيد عددهم عن 300 شخص. وتمر عملية التصنيف بمراحل حتى تصبح الوثيقة صالحة للاستعمال. وقد اُنتهجت أساليب حديثة ومتطوّرة في هذه العملية، فالباحث اليوم يمكنه البحث في أجهزة الكمبيوتر الموضوعة في قاعة كبيرة وفسيحة، والاطلاع على مختصرات للوثائق المصنّفة، بل والاطلاع على أغلب صور الوثائق ومعاينتها. وما لا يوجد على جهاز الكمبيوتر يمكن طلبه من المخزن، وفي خلال ساعات يكون بوسعه الاطلاع عليها في نسخها الورقية الأصلية.

يوجد فريق من المتخصصين في ترميم الوثائق التي اهترأت وأصبحت مهدّدة بالتّلف، وهذا الفريق يعمل على ترميم هذه الوثائق وتنظيفها مما علق بها من شوائب وإصلاح التمزّقات الحاصلة فيها باستخدام وسائل حديثة. وبعد أن تستعيد الوثيقة عافيتها تمرّ إلى فريق آخر مهمته قراءة الوثائق وفهمها ووضع ملخص لكل وثيقة. ويحتوي الملخص على معطيات دقيقة عن الوثيقة لكي يتمكن الباحث من استخدامها في أبحاثه وتتمثل في: رمز الوثيقة ورقمها وتاريخها بالهجري أو الميلادي أو الرّومي ثم فقرة فيها المحتوى العام للوثيقة.

بعد ذلك يتم وضع صورة لهذه الوثيقة في جهاز الكمبيوتر مع ما يتعلق بها من معطيات. وبذلك يصبح الباحث قادرًا على العثور عليها من خلال محرك البحث، وأخذ نسخة رقميّة في قرص مضغوط. وتجدر الإشارة إلى أنّه بإمكان أي شخص الدخول إلى موقع الأرشيف العثماني والتسجيل المجاني فيه، والقيام بعمليات البحث باستخدام كلمات مفاتيح باللغة التّركية والاطلاع على ملخصات الوثاق عبر شبكة الانترنت من أيّ مكان في العالم. وما تزال عمليات التصنيف جارية على قدم وساق، لكن قد يحتاج الفراغ منها إلى عدة سنوات نظرا إلى كثرة الوثائق ودقة العملية. ولاشكّ أنّ هذه الجهود الجبّارة قد يسّرت كثيرا على الأساتذة والطلاب والباحثين عملهم ووفرت عليهم الوقت والجهد.            

حجم الوثائق العربية في الأرشيف العثماني

لا يحتاج الباحث إلى عناء كبير لكي يعرف الحجم الضخم للوثائق العربية في هذا الأرشيف. فعند الدخول إلى موقع الأرشيف وكتابة اسم أيّة مدينة عربية من المغرب الأقصى إلى العراق يجد كمّا هائلاً من الوثائق حول تلك المدينة، والأمر نفسه عندما الدخول عبر أسماء أشخاص أو أسماء قرى أو قبائل أو غير ذلك. كما يمكن العثور على خرائط وصور. وكمثال على ذلك فقد ذكر مدير الأرشيف قبل سنوات أنّ عدد الوثائق المتعلقة بمدينة القدس وحدها يبلغ نحو 5 ملايين وثيقة. كما أن هناك مدنا أخرى عربية كثيرة جدا توجد عنها آلاف الوثائق مثل مكة والمدينة والقاهرة وتونس والجزائر وطرابلس الغرب والشّام وبغداد والبصرة وبيروت وغيرها من المدن.  

وتحتوي الوثائق على معلومات دقيقة عن كل مدينة تتعلق بأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية. كما يمكن للباحث أن يعثر على معلومات مفصّلة للأحداث، وتوجد معلومات كذلك تتعلق بالعشائر والقبائل وأسماء موظفي الدولة والرّواتب التي كانوا يتقاضونها. وسوف نأخذ تونس كمثال على حجم هذه الوثائق وطبيعة المعلومات التي توجد فيها باعتبار أن جزء من اهتمامي في البحث هو حول تاريخ تونس من خلال الوثائق. فبالرغم من أن تونس خرجت مبكّرا من قبضة الدولة العثمانية وتحديدا عام 1881م فإن الوثائق التي تتعلق بها تتجاوز الـ70 ألف وثيقة، وهي كمية كبيرة تصلح وحدها لأن تكون أرشيفًا قائما بنفسه ضمن "الأرشيف الوطني التونسي". وعند النظر في هذه الوثائق نجد معلومات مهمة جدا، بداية من الفترات الأولى التي دخل فيها الأتراك العثمانيون إلى تونس في عام 1574 م حتى الاحتلال الفرنسي. وقد هالنا حجم الوثائق التي تتناول السنوات الأولى من الاحتلال، ومواقف السّاسة التّونسيين ومقاومة الشّعب التونسي للاحتلال وممارسات الاحتلال ومظالمه البشعة، وكذلك مواقف الدّول الأوروبيّة. وهذه الوثائق لم تتم دراستها إلى حدّ الآن لأسباب يطول شرحها.

 ولا يختلف الأمر شيئا بالنسبة إلى بقية الدول العربية التي كانت جزء لا يتجزء من العالم العثماني. وقد رأيت كيف يأتي الباحثون من دول أوروبية ومن اليابان ومن إسرائيل وهم مزودون بتعليم جيد في مجال اللغة التركية الحديث والعثمانية، ومدعومون ماديا ومعنويا من قبل الجماعات التي أرسلتهم والمراكز العلمية التي جاؤوا منها، فيعرفون ماذا يفعلون وما هو هدفهم، بينما يُعدّ الباحثون العرب على أصابع اليد الواحدة، وأغلبهم قدم للبحث على نفقته الخاصّة فتجده مشتت الذهن والجُهد مقطوع الجناحين يكابد غلاء المعيشة وصعوبة الحياة في مدينة اسطنبول.

كنز ينتظر من ينقّب عنه

للأسف لا يوجد أي اهتمام بمجال البحوث التّركية والعثمانية في جامعاتنا العربية، باستثناء مصر إلى حدّ ما والتي بدأ فيها تعليم اللغة التركية في وقت مبكّر من القرن الماضي، لكن النتائج ضعيفة إلى أبعد الحدود، وفي الجزائر أنشئ قبل سنوات قليلة قسم للّغة التركية في إحدى الجامعات، وفي تونس أصبحت التركية لغة اختيارية في بعض الجامعات والمعاهد الثانوية منذ سنتين تقريب. لكن هذا الأمر المجال يحتاج إلى دعم قوي من الدّولة، ويحتاج إلى برامج واضحة واستراتيجيات مدروسة لتكوين باحثين متخصصين في كل دولة عربية من أجل الاستفادة من هذه الكنوز مثلما يستفيد منها غيرنا. فمن أكبر عوائق البحث في هذا المجال هو الجهل باللغة التّركية، والتركية أداة مهمة بل وضرورية للولوج إلى عالم الوثائق. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة التركية توفر كل عام منحًا كثيرة لجميع المستويات من أجل الدّراسة والبحث في الجامعات التّركية، والاستفادة منها ما تزال محدودة جدّا.

للأسف فالعالم العربي بعد الثّورات التي حدثت فيه يمرّ بموجة من العواصف الشّديدة، وشعوبه تكابد من أجل الحصول على حريتها وكرامتها التي أهدرت لسنوات طويلة، وكان الاهتمام طوال العقود الماضية منصرفا لمجالات أخرى غير البحوث العلمية، وكانت ثرواته محتكرة لدى قلة من المنتفعين الجاهلين الذين لا يعرفون للعلم قيمة ولا قدرًا.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس