أسامة أبو ارشيد - العربي الجديد

لم يهدأ الجدل بعد بشأن قرار المحكمة الإدارية العليا في تركيا، يوم الجمعة الماضي، والذي ألغى المرسوم الحكومي الصادر عام 1934، وكان تَمَّ بموجبه تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف. ومن المستبعد أن تنتهي تفاعلات هذا القرار في وقت قريب، إذ إن أمراً بهذا الحجم يختزن من الرمزيات الكثير، حيث يتداخل الديني مع القومي، والداخلي مع الخارجي، والسياسي مع الاستراتيجي، والتاريخي مع المستقبلي. بمعنى أننا نقف أمام وطأةٍ لا يمكن بحال تجاوزها وتهميشها. ومن ثمَّ لا غرابة فيما نقلته صحيفة جمهوريت التركية، من أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي وقع في يوم صدور الحكم القضائي مرسوماً يقضي بإعادة فتح آيا صوفيا للعبادة بدءاً من الجمعة المقبلة (24/7)، سيطرت عليه مشاعر غامرة، إلى درجة أنه لم يتمكّن من النوم حتى صباح اليوم التالي. وحسب الصحيفة، رأى أردوغان في القرار نهاية لحقبة من الإذلال لتركيا. 

لا يهدف هذا المقال إلى محاولة تسويغ القرار ولا إدانته، ولا إلى البحث في شرعيته إسلامياً من عدمها. كما لا يهدف إلى الغوص في كل الحيثيات التاريخية، ولا إلى تتبع دقيق ومفصل لردود الفعل المحلية التركية، أو الرسمية والشعبية العربية، أو الدولية، بما في ذلك المواقف الكَنَسِيَّةِ المختلفة، فكل هذا مسجّل ومنشور. ما تسعى إليه هذه السطور هو التنبيه إلى زاوية الرمزيات والإيديولوجيات التي أظنها غابت عن كثير من النقاش الدائر في الموضوع، على الرغم من أن خطاب أردوغان عن القرار حَفِلَ باستدعاء تلك الرمزيات والإيديولوجيات التأسيسية، لا في الوعي التركي فحسب، بل وكذلك في الوعي الإسلامي، وربما في الوعي الغربي المسيحي. 

لنعد إلى البدايات. في عام 532 م، أمر الإمبراطور البيزنطي، جوستنيان الأول، ببدء بناء كاتدرائية آيا صوفيا في القسطنطينية (إسطنبول اليوم)، وانتهت عام 537، وعدّت على مدى قرون أيقونة الحضارة البيزنطية والمسيحية الأرثوذكسية. وفي 1453، فتح العثمانيون القسطنطينية بقيادة السلطان محمد الثاني، والذي سيُعرف منذ ذلك الحين بالسلطان محمد الفاتح، إذ لذلك رمزية في الوعي الإسلامي السّني سيشار إليها هنا تالياً. ومباشرة، حوّل الفاتح آيا صوفيا إلى مسجد، وبقيت على هذا الحال حتى عام 1934، عندما حوّلتها حكومة مؤسس تركيا الحديثة على أنقاض السلطنة العثمانية، الراحل، مصطفى كمال أتاتورك، متحفا. ومن دون الاستغراق في التفاصيل، أراد أتاتورك من ذلك القرار أن يتقرّب إلى الغرب، وأن يعزّز الطابع العلماني للدولة، وأن يهمّش الإسلام في مناحي الحياة. ومنذ ذلك الحين، انفتق جرح في الوعي الإسلامي، تحديداً التركي منه، إلى حين صدور القرار أخيرا بإعادتها إلى مسجد، ذلك أن الأمر، مرة أخرى، متعلقٌ برمزيات، تحوّلت إلى إيديولوجيا دينية وحضارية، بأبعاد سياسية، ذات وطأة شديدة، بحيث يصعُب تصوّر إلغائها أو تهميشها.

أما خلفية الرمزيات، فمردّها مدينة القسطنطينية ذاتها، والتي كانت عاصمة بيزنطة، أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية، والتي كانت تمثل مع فارس القوتين العظميين في الفضاء العربي، عند بعثة النبي محمد، عليه السلام، مطلع القرن السابع الميلادي. لم يطل الحال كثيراً حتى كانت الفتوحات الإسلامية تصطدم بِتَيْنِكَ القوتين. ولكن، إذا كانت الإمبراطورية الفارسية انهارت أمام الجيوش الإسلامية خلال ثلاثة وعشرين عاماً، فإن بيزنطة، أو الروم، كما كان العرب يطلقون عليهم حينها، وعلى الرغم من هزائمهم الفادحة أمام المسلمين، وخسارتهم أراضي شاسعة لهم، سيبقون شوكة في خاصرتهم أكثر من ثمانية قرون، أي إلى حين دخول العثمانيين إسطنبول، والتي سيعيد الفاتح تسميتها بـ"إسلامبول"، أي مدينة الإسلام، في مغزىً لا تخطئه عين. وعلى مدى ثمانمائة عام (653 – 1453)، بدءاً من عهد الخليفة الراشدي، عثمان بن عفان، وحتى فتحها على يد العثمانيين، جرّد المسلمون إحدى عشرة حملة عسكرية لاحتلال المدينة.

من المهم أن يُشار هنا، في سياق تشكل الرمزيات، إلى أن دافع الخلفاء والأمراء والسلاطين المسلمين من محاولات فتح القسطنطينية، لم يكن محصوراً في القيمة الاستراتيجية لها، وتحييد الخطر الروماني على ثغور الدول الإسلامية المتعاقبة، فحسب، بل كان ثمَّة خلفية دينية في المشهد، مرتبطة ببشارة نبوية. ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أن الرسول عليه السلام، قال: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش". ومن ثمَّ فقد طمح كل خليفة وأمير وسلطان إلى أن يحظى بشرف البشارة. كما تسابق صحابة على أن يكونوا ضمن جيوش الفتح، ومن هؤلاء عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري. وقد توفي الأخير خلال حصار المدينة عام 674، ودفن عند أسوار المدينة، وله مكانة خاصة في تركيا، منذ فتح القسطنطينية، إذ سارع الفاتح إلى بناء ضريح على قبره، وأصبح السلطان الجديد لا يقلّد سيف السلطنة إلا عنده. وبقي الحال على ذلك إلى حين اضمحلال الدولة العثمانية وانهيارها مطلع القرن الماضي.

إذاً، محاولة إغفال الخلفية السابقة الحاضرة بقوة في المشهد تقود إلى خلاصات غير دقيقةٍ وغير وافية. وهذا لا يعني أنه لا توجد خلفية قومية متماهية إلى حدٍّ كبير مع الدين، عبّر عنها تقرير صحيفة جمهوريت، المشار إليه سابقاً، أن أردوغان رأى في القرار نهاية لحقبة من الإذلال لتركيا. وأردوغان نفسه لا ينفي ذلك، وهو يشير، في خطابه، إلى سنوات احتلال الأناضول وإسطنبول (1918 – 1923)، بعد الحرب العالمية الأولى، من قوات بريطانية وفرنسية وإيطالية، والنقاش الذي دار حينها بشأن تحويل آيا صوفيا كنيسة، ومحاولة قوات فرنسية فرض ذلك، وكيف تصدّت لهم الوحدة العسكرية العثمانية المكلفة بحراسة المبنى. ولعل ما يؤكد المعطى القومي هنا تأييد أحزاب المعارضة التركية، بما فيها حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك نفسه، لقرار المحكمة الإدارية العليا، على أساس أن هذه قضية سيادية تركية بحتة. أيضاً، إطار الرمزيات لا يعني غياب حسابات سياسية وانتخابية لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية (الحاكم)، فغالبية الشعب التركي مؤيدة للقرار الذي لا شك سيعزّز شعبية الرئيس والحزب التي تراجعت في السنوات الأخيرة. ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن يأس أردوغان من إمكانية دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن إنكار أن كون تركيا بلدا ذا أغلبية سكانية مسلمة أمر حاضر في حسابات بعض الأوروبيين، وإنْ لم يكن من الموضوعي اختزال الأمر في هذا البعد فقط. لكن كل ما سبق لا ينفي وطأة الرمزيات، دينياً وتاريخياً، ودورهما في تأطير رؤية أردوغان لتركيا، استراتيجياً ومستقبلياً. من لم يقتنع بذلك بعد، عليه أن يعود إلى خطاب أردوغان السابق عن آيا صوفيا، فقد حفل بتلك الرمزيات التأسيسية، دينياً وتاريخياً. 

باختصار، لا يمكن إهمال الأبعاد الدينية والتاريخية في قرار إعادة آيا صوفيا مسجداً، فأردوغان، وكبار قادة حزب العدالة والتنمية، ذوو خلفية إسلامية، وهم قد نشأوا على مثل هذه المفاهيم والقناعات. وكما يقول متخصصون في الفكر السياسي، فإن الخلط بين الخطابين، الديني والسياسي، يؤدّي إلى تقديم الخيارات السياسية المفضلة أنها الوحيدة المتاحة، كما يتم تكييفها على أنها ما يريده الخالق، ومن ثمَّ فهي ضرورية ومعيارية. وبالتالي، تصبح الإيديولوجيا، هنا، محاولة لإضفاء الشرعية على نظام سياسي معين، وخيارات سياسية معينة، عبر استخدام دلالات دينية. هذا هو بالضبط ما يجسّده أردوغان اليوم، واستدعاؤه للتاريخ الإسلامي، وتركيزه على الحقبة العثمانية، ليس من فراغ، بل هو توظيف ذكيٌّ وواعٍ للبنتين أساسيتين في مدماك مستقبل تركيا ومكانتها الاستراتيجية والاقتصادية ضمن خريطة القوى الدولية. لا يهم هنا إذا ما اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التوظيف، وهو بالمناسبة ليس حصراً على تركيا، بل تمارسه دول غربية، الأصل أنها علمانية، كالولايات المتحدة، وروسيا نموذج آخر. هذا موضوع آخر. يبقى السؤال، أين العرب من بناء الرمزيات واستدعائها، وأي مستقبلٍ يبحثون عنه وهم قابعون في هامش التاريخ؟

عن الكاتب

أسامة أبو ارشيد

كاتب فلسطيني مقيم في واشنطن، حاصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية من بريطانيا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس