محمود عثمان - الأناضول

تبذل روسيا قصارى جهدها لعقد مؤتمر دولي حول اللاجئين السوريين، حيث أوفد الرئيس فلاديمير بوتين، مبعوثه الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، في زيارات مكوكية إلى كل من بغداد وعمّان وبيروت، لحشد تأييد للمؤتمر.

وتكثف موسكو جهودها الدبلوماسية لعقد المؤتمر، بهدف إيجاد مسار جديد يطول لجولات عديدة، ويشغل الرأي العام، دون أن يكون له أثر مباشر على تغيير قواعد الاشتباك في سوريا، على غرار اجتماعات أستانا، التي أتاحت لموسكو فرصة الإمساك بخيوط الأزمة السورية.

مرة أخرى تثبت موسكو أنها عاجزة عن ابتكار حلول سياسية واقعية معقولة، ترضي أطراف الأزمة السورية، من خلال طرح الأفكار نفسها بنسخ متعددة.

وتسعى موسكو، منذ فترة، لتكرار التكتيك نفسه، لكن هذه المرة تحت عنوان "عودة اللاجئين"، مستغلةً الانشغال الأمريكي بالانتخابات الرئاسية، وحالة اللامبالاة المزمنة عند الأوروبيين، وخروج جامعة الدول العربية من دائرة الفعل والتأثير.

** روسيا.. تدمير ومجازر

أسفر التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ 30 سبتمبر/ أيلول 2015، عن نتائج كارثية على كافة المستويات الإنسانية، في ظل مجازر وضحايا وعمليات تهجير وتدمير للبنية التحتية.

فقد تحولت المدن والبلدات السورية الخارجة عن سيطرة قوات النظام إلى ساحة حرب وأرض محروقة، تصب الترسانة العسكرية الروسية كل قوتها التدميرية فيها، وهو مشهد يوصف بأنه الأكثر تدميرا منذ الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).

ووثقت فرق "الدفاع المدني السوري"، بين 30 سبتمبر 2015 و20 سبتمبر 2020، مقتل 3966 مدنيا، بينهم أطفال ونساء. وهذا الرقم لا يشمل عددا كبيرا من الضحايا توفوا بعد إسعافهم، أو بعد أيام من إصابتهم.

كما وثقت ارتكاب روسيا 182 مجزرة قتلت 2228 مدنيا وأصابت 3172 آخرين. وأغلب تلك المجازر كانت باستهداف منازل مدنيين وأسواق وأماكن مكتظة، بهدف إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا بين المدنيين.

** استهداف المدنيين

بشكل رئيسي، تركزت الهجمات الروسية على مراكز المدن ومنازل المدنيين والمرافق الحيوية، بهدف تهجير أكبر عدد من المدنيين، وتدمير كافة أشكال الحياة التي تدعم استقرارهم.

واستهدفت 69 بالمئة من تلك الهجمات منازل مدنيين، بواقع 3784 هجوما، وحلت الحقول الزراعية في المرتبة الثانية بـ15 بالمئة من الهجمات (821 هجوما)، ثم الطرق الرئيسية والفرعية 6 بالمئة (324 هجوما)، والمشافي والمراكز الطبية بـ70 هجوما.

وبعدها مراكز للدفاع المدني بـ59 هجوما، وأسواق شعبية بــ53 هجوما، ومدارس بـ46 هجوما، ومخيمات نازحين بـ23 هجوما، إضافة لعشرات الهجمات استهدفت مساجد وأفرانا ومعامل وأبنية عامة.

** حملات تهجير

أدى تدخل الروس عسكريا، وتهديدهم بتدمير الأحياء الشرقية من مدينة حلب (شمال) عام 2016، إلى تهجير سكانها.

ثم انتقلت عدوى التهجير إلى ريف دمشق الغربي وأحياء دمشق الشرقية، في 2017، وكان 2018 عام التهجير بامتياز، إذ شمل الغوطة الشرقية والقلمون وأحياء دمشق الجنوبية بريف دمشق، وريف حمص الشمالي، إضافة للجنوب السوري، الذي يضم القنيطرة ودرعا.

وترافقت حملات التهجير مع قصف مكثف من الطيران الحربي الروسي، ووصفت الأمم المتحدة موجات النزوح التي شهدها الشمال السوري خلال الحملة العسكرية للنظام العام الماضي، بأنها الأكبر في تاريخ سوريا، حيث أُجبر أكثر من 1,182,772 مدنيا على ترك منازلهم والهرب من الموت خلال 2019.

فيما بلغ عدد النازحين، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 وحتى نهاية فبراير/ شباط 2020، أكثر من 1,037,890 شخصا، منهم من نزح أكثر من خمس مرات على فترات متفرقة، بالتزامن مع الحملات العسكرية التي شنها النظام وروسيا على مناطقهم في أرياف إدلب وحماة وحلب، بالإضافة إلى المدن القريبة من خطوط التماس، مثل أريحا وسرمين ودارة عزة والأتارب.

وتوجه نصف مليون نازح إلى مخيمات الشريط الحدودي مع تركيا، والتي كانت تضم نحو مليون نازح، ليرتفع العدد فيها إلى مليون ونصف مليون، بينما توجه القسم الآخر إلى ريفي حلب الشمالي والشرقي وعفرين واعزاز والباب وجرابلس.

** تغيير ديمغرافي

منذ تدخلها العسكري، سعت روسيا إلى صياغة المشهد السوري بطريقة تمكنها من الإمساك بزمام الأمور.

واعتمدت على تفوقها الجوي، ودعم المليشيات الإيرانية على الأرض، واستخدام سياسة الأرض المحروقة، على نموذج "غروزني"، فاستطاعت قلب موازين القوى العسكرية لصالح النظام على حساب المعارضة.

بعد تحقيق التفوق العسكري، وبينما اتبع الإيرانيون سياسة تهجير السكان من أرضهم، حدثت أكبر عملية تغيير ديمغرافي في التاريخ الحديث، حيث دفعوا بالملايين من سكان الغوطة وحمص باتجاه إدلب، التي بقيت من حصة المعارضة.

وبالتزامن، أجرى الروس ما أطلقوا عليها "مصالحات"، وهي عملية إخضاع لمن رفضوا التهجير القسري لسلطة نظام الأسد.

** أهداف موسكو

ثمة أهداف ترجوها روسيا من عقد مؤتمر اللاجئين السوريين على رأسها:

- الالتفاف على العملية السياسية، حيث دأبت روسيا على الالتفاف على المسارات الأممية، التي تمنح المعارضة السورية نوعا من الندية مقابل نظام الأسد.

فبعد فشلها في عقد مؤتمر للاجئين السوريين عام 2018، ها هي موسكو تكرر المحاولة لعقده، دون أن تطرح أفكارا ومشاريع ورؤى جديدة، فهدفها هو حرف الأنظار عن العملية السياسية.

- الاستفادة من الأموال التي ستجمعها روسيا باسم اللاجئين السوريين، في تمويل نظام الأسد، الذي يبدو على وشك الإفلاس.

- الالتفاف على "قانون قيصر" (عقوبات أمريكية على نظام الأسد ومتعاونين معه)، عبر إدخال/ تهريب الأموال والمواد وجميع احتياجات النظام على أنها مساعدات للاجئين.

- إعطاء رسالة للعالم بأن سوريا تحت الوصاية الروسية، حيث حرصت موسكو على توجيه الدعوات للمؤتمر باسم وزارة الدفاع الروسية، وهذه مصادرة للقرار السوري الذي طالما تشدق الروس بشرعيته.

- حصر المساعدات المقدمة للاجئين السوريين عبر قنوات النظام فقط، بعد أن نجح الروس في إغلاق أحد المعبرين الإنسانيين في الشمال السوري، ليبقى معبرا واحدا.

** الموقف الأمريكي والأوروبي من عقد المؤتمر

لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بانتخابات الرئاسة، التي أُجريت في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري ولم تُعلن نتيجتها رسميا بعد.

لكن المبعوث الأمريكي لشؤون سوريا، جيمس جيفري (أعلنت واشنطن استقالته الإثنين مع اقتراب تقاعده بنهاية نوفمبر)، قال مؤخرا إن الحل في سوريا لن يكون إلا بموجب القرار الأممي 2254، المتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية، مشيرا إلى "وحشية النظام وحلفائه خلال الحرب ضد السوريين".

وعقب إحاطة للمبعوث الأممي إلى سوريا، جير بيدرسون، أمام مجلس الأمن في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أشارت البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة إلى وقوف النظام السوري عائقا أمام جهود المبعوث الأممي لعقد الجولة الرابعة من أعمال اللجنة الدستورية.

وطالبت البعثة نظام الأسد بالتوقف عن استهداف السوريين، الذين عادوا إلى مناطق سيطرته، وتهيئة الظروف التي تسمح للاجئين بعودة آمنة وطوعية وكريمة وفي الوقت المناسب إلى البلاد، في إشارة واضحة إلى صعوبة عودة اللاجئين من دون صياغة الحل النهائي.

حاولت روسيا إقناع الأوروبيين بتمويل عملية إعادة الإعمار بحجة إعادة اللاجئين، لكن الموقف الأوروبي مثل موقف معظم دول العالم كان رافضا لبحث إعادة الإعمار قبل إنجاز التغيير السياسي وفق القرار 2254 وغيره.

لكن يبدو أن الروس مُصرين على الالتفاف على الإرادة الدولية، خصوصا بعد أن حققوا نجاحا جزئيا في اختزال العملية السياسية بالتركيز فقط على اللجنة الدستورية.

** لماذا تجنبت موسكو دعوة أنقرة؟

تجنّب مبعوث الرئيس الروسي زيارة تركيا، رغم أنها تستضيف حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري، وهم أكثر من نصف اللاجئين السوريين.

وعدم دعوة موسكو لكل من تركيا وأوروبا هو مؤشر على عدم الجدية، وعلى أن الروس لا يستهدفون حل مشكلة اللاجئين.

كما هو معلوم، فإن الوضع الاقتصادي في سوريا على شفير الانهيار، ويكاد يودي بالنظام، لولا الدعم الإيراني، والأمن معدوم أيضا.

أي أن عودة اللاجئين إلى ديارهم لن تكون إلا بالضغط والإكراه، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به تركيا أو أوروبا.

كما أن ضبابية بنود المؤتمر وعدم وضوح جدول أعماله، تكشف أنه محطة روسية جديدة لتمييع الملف السوري في أروقة المسارات المتعددة للحل.

فاكتفاء لافرنتييف بالتنسيق مع العراق والأردن ولبنان، من من دون المرور بتركيا وأوروبا اللتين تستضيفان الملايين من اللاجئين، هو مؤشر على عدم الجدية الروسية في حل مشكلة اللاجئين، بقدر استخدامها كورقة لكسب الوقت.

** الخلاصة

طيلة السنوات الأخيرة من عمر الأزمة السورية، نجحت روسيا بالدفع باتجاه انتزاع الملف السوري من أروقة المسار الأممي للحل، وحصره بمساراتها الخاصة، وحشدت لذلك كل الإمكانيات الدبلوماسية والسياسية.

فقد وجدت موسكو أن القرار 2254 لعام 2015، الذي تم تبنيه بدفع غربي وأمريكي، هو بداية الطريق لمرحلة سياسية جديدة في سوريا.

ويأتي حرص الروس على عقد مؤتمر للاجئين السوريين في السياق ذاته، أي تعطيل المسار الأممي، وإلا فما الذي يدفع دولة مثل روسيا، ليس لديها لاجئين سوريين، ولا حدود مع سوريا، ولا تتحمل عبء اللاجئين لا ماديا ولا معنويا، إلى تكرار المبادرة تلو الأخرى لعقد مثل هذا المؤتمر؟!

لا أعتقد أن عاقلا يعزو ذلك لأسباب إنسانية..

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس