سعيد الحاج - الجزيرة نت

في 4 يناير/كانون الثاني الجاري، وقعت دول الحصار مع قطر بيان قمة العلا في السعودية، والذي عُدَّ إيذانا بكسر الحصار المفروض على الأخيرة، وإشارة إلى مصالحة خليجية خليجية بعد سنوات من الأزمة.

وكانت تركيا في مقدمة الدول التي رحبت بالاتفاق معبرة عن أملها بأن يتحول لمصالحة كاملة وشاملة، بما يعود على الخليج العربي والمنطقة بالخير، ويفتح المجال أمامها لتعود إلى مكانتها مع دول الخليج المختلفة.

تركيا والأزمة

كانت علاقات ودية، لا سيما تجاريا، تجمع أنقرة مع مختلف دول المنطقة ومنها دول الخليج العربي، في سنوات حكم العدالة والتنمية الأولى؛ إلا أن مواقفها من الثورات العربية أدت إلى فتور واضح مع بعضها، لا سيما بعد الانقلاب في مصر عام 2013.

في أزمة حصار قطر، سارعت تركيا إلى موقف داعم لقطر، اقتصاديا وتجاريا وسياسيا وحتى عسكريا، حيث بنت جسرا جويا معها، وسرّعت خطوات افتتاح قاعدة الريان ووقفت إلى جانبها في المحافل الدولية.

ورغم هذا الوقوف الواضح إلى جانب الدوحة، لم تبن  أنقرة موقفها على قاعدة استعداء الأطراف الأخرى لا سيما الرياض؛ بل ركزت تصريحات أردوغان في تلك الفترة على أن السعودية هي "الشقيقة الكبرى" في الخليج، التي تقع عليها مسؤولية رأب الصدع، وقد زار الرياض أكثر من الدوحة في بدايات الأزمة.

كما أن تدخل تركيا بهذا الشكل في الأزمة، تحديدا قاعدتها العسكرية، ساهم ضمن عوامل أخرى في منع انفلات الأمور، وتطور الأحداث إلى سيناريوهات كارثية، فضلا عن أن أنقرة دعمت دائما جهود الوساطة لا سيما تلك التي قادتها دولة الكويت.

وأخيرا، كانت العلاقات التركية القطرية لا سيما قاعدة الريان ضمن مطالب دول الحصار لإعادة العلاقات وكسر الحصار، ما وضع أنقرة في قلب الأزمة، وإن لم تكن ابتداء طرفا فيها.

المصالحة مصلحة تركية

لكل الاعتبارات السابقة، تحمل رؤية أنقرة للاتفاق أهمية خاصة، حيث إن المصالحة -أو مقدماتها للدقة- بالصيغة التي تمت بها مصلحةٌ تركية خالصة من عدة جوانب.

ففي المقام الأول هي خطوة نزعت فتيل أزمة مفتوحة على احتمالات عدة ومضرّة بمنطقة حيوية على مدى سنوات، وبالتالي جنبتها سيناريوهات أسوأ، وفي ذلك مصلحة جوهرية للمنطقة ولتركيا.

كما أن في ذلك كسرا للحصار وتخفيفا للضغوط على دولة حليفة لها، وهي قطر، خصوصا أنها تمت بدون تنازلات من الأخيرة، أو استجابة للمطالب التي كانت دول الحصار وضعتها شرطا لكسره.

من جهة ثالثة، وفيما يتعلق بتركيا مباشرة، لم يتضمن بيان قمة العلا أي إشارة سلبية للأخيرة أو مطالب واشتراطات على قطر بخصوص العلاقة معها، على عكس إيران مثلا، وهو مؤشر إيجابي جدا بالنسبة لأنقرة.

كما أن الحل بصيغته الحالية يفتح الباب على إمكانية تحسين علاقات أنقرة مع عدد من أطراف الأزمة، لا سيما الرياض والقاهرة، بما في ذلك تطوير العلاقات الاقتصادية وزيادة الاستثمار في تركيا، وهو أمر له أهميته البالغة في ظل جائحة كورونا وواقع الاقتصاد التركي.

هذا التحسن في العلاقات، إن حصل، ولو على قدر تخفيف حدة التوتر وتدوير زوايا الخلاف مؤقتا، من شأنه أن يخفف الضغوط على تركيا، ويخلخل تماسك التحالفات والاصطفافات المناوئة لها في الإقليم نسبيا.

كما أن ذلك من شأنه أن يفتح آفاقا لحلول محتملة -ومقبولة بالنسبة لتركيا- لعدد من الملفات الإقليمية وفي مقدمتها المسألة الليبية، حيث تتواجه رؤى تركيا وبعض هذه الدول. ويعظّم من هذا الاحتمال اقتناع مختلف الأطراف بتراجع فرص الحل العسكري ما دفع بعضها لتعديل موقفها من حكومة الوفاق الوطني.

الانعكاسات

رغم أن الأزمة الخليجية ما زالت في خطواتها الأولى؛ إلا أنها تفتح صفحة جديدة في المنطقة على صعيد العلاقات الخليجية الخليجية، ويمكن قول الأمر نفسه على العلاقات التركية الخليجية، ولو من باب الاحتمال والإمكانية، ويعضُدُ ذلكَ عدد من الشواهد.

ثمة من رأى بأن الاتفاق الأخير يقلل من حاجة قطر لتركيا، ويجعلها أحرص على رضا جاراتها، مما سيدفع لتراجع مستوى العلاقات بين البلدين مع الوقت؛ إلا أننا نرجح عكس ذلك تماما، أي تجذرها وتقويتها وتطورها.

ذلك أن الدوحة تدرك أهمية الدور الذي أدته تركيا في إيصالها للحظة المصالحة بدون تنازلات منها، وهو ما لا يمكنها المخاطرة بخسارته مستقبلا، خاصة أنها -ومعها تركيا وباقي الأطراف- تدرك أن المصالحة ما زالت هشة، وأن ما جرى تحت الجسر منذ 2017 من الصعب تجاوزه بجرة قلم على بيان العلا.

وقد تصرفت الدوحة انطلاقا من شعور الوفاء والامتنان مع أنقرة في عدة محطات، لا سيما على صعيد التجارة والاستثمار فضلا عن المواقف السياسية. كما أنها لا تبدو مضطرة لتقديم تنازلات لجيرانها على صعيد العلاقات مع تركيا، إذ لم تأت إلى المصالحة ضعيفة أو مرغمة من جهة، وعلاقات الجارات مع أنقرة مرشحة للتحسن من جهة ثانية.

في مقدمة هؤلاء تأتي المملكة العربية السعودية، التي حرصت تركيا على إبقاء العلاقة معها في أفضل مستوى ممكن حتى في ظل الأزمات، وفي مقدمتها قضية اغتيال الإعلامي جمال خاشقجي. فعلى مدى الأسابيع الأخيرة، لا سيما بعد انتخاب بايدن، واستشراف ملامح المرحلة الجديدة معه، قدمت الرياض إشارات عديدة ملمحة إلى رغبتها في تحسين العلاقات مع أنقرة. وهو أمر من المرجح أن تتجاوب معه الأخيرة إيجابا بطبيعة الحال، لا سيما إذا ما استمرت علاقات الرياض مع الدوحة بالتحسن، وسعت الأخيرة في الوساطة بينهما كما ذكرت بعض التقارير.

القوة الإقليمية الأخرى التي ترغب أنقرة في تطوير العلاقات معها هي مصر، وفق تصريحات وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، التي أكدت أن البلدين في مرحلة جديدة من العلاقات البينية، عمادُها تجنب التصعيد والإضرار بمصالح بعضهما البعض. ويزيد من هذه الاحتمالية وجود مصالح حقيقية تجمع البلدين في ليبيا وشرق المتوسط (ترسيم الحدود البحرية)، فضلا عن انزعاج القاهرة من تراجع دورها الإقليمي في ظل بعض التطورات الحاصلة؛ من ذلك مسار التطبيع العربي مع "إسرائيل".

مقابل كل ذلك، تبدو دولة الإمارات العربية المتحدة استثناء في هذا الإطار حتى اللحظة. ليس فقط لأن أنقرة لم تبادر بتصريحات أو خطوات إيجابية تجاهها أسوة بالسعودية ومصر؛ لكن أيضا لأن تصريحات وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، والتي ثمّن فيها العلاقات التجارية بين الجانبين، ونفى اعتزاز بلاده بالخلاف مع تركيا، بقيت بدون رد أو تعليق رسمي.

ذلك أن الخلافات بين أنقرة وأبو ظبي تخطت حدود التنافس الإقليمي أو ما تراه بعض الأطراف دعما تركيا للمعارضات العربية لا سيما الإسلامية منها. فالأولى تتهم الثانية بالسعي للإضرار بأمنها القومي في السنوات القليلة الأخيرة، من خلال تمويل بعض التحركات الداخلية بما فيها الانقلاب الفاشل، ودعم المليشيات الانفصالية في الشمال السوري، وكذلك التحريض عليها في الولايات المتحدة الأميركية.

في الخلاصة، مثلت المصالحة الخليجية بشكلها الحالي وخطواتها التي تمت حتى الآن مصلحة لتركيا، لا سيما أنها أتت بدون تنازلات من قطر أو منها، بما يمثل إضافة لسجلها في 2020 الذي ضم اختراقات مهمة في الملف الليبي والصراع في القوقاز وحتى شرق المتوسط نسبيا.

وتعظّم المصالحة من احتمالات تحسن علاقات أنقرة مع عدد من القوى الإقليمية، لا سيما الرياض والقاهرة، وهو ما يتناسب مع رؤيتها وسعيها لتدوير زوايا الخلاف، وتفعيل الدبلوماسية، وتجنب التصعيد في المرحلة المقبلة.

أخيرا، ما زالت المصالحة في خطواتها الأولى، وستحتاج للكثير من خطوات بناء الثقة، وستمر بمحطات اختبار عديدة، لذلك فالزمن وحده كفيل بكشف مدى تماسكها وانعكاسها على الاصطفافات الإقليمية.

لكن يمكن القول إن تركيا -ومعها قطر- ليست تحت ضغط ولا في عجلة من أمرها، وهي بانتظار تحول الإشارات والتصريحات إلى قناعات وسياسات، مدركة بأن سياسات الكثير من الدول تبنى على التحالفات والمواقف المسبقة أكثر من المصالح والرؤى الإستراتيجية؛ مما يدفع لعدم رفع سقف التفاؤل والتوقعات بتغير جذري في تحالفات المنطقة.

فهي مرحلة تهدئة إذن، على صعيد التصريحات والمواقف على أقل تقدير، أما تحولها إلى إستراتيجيات وسياسات فرهْنٌ بإرادة سياسية ستثبت الأسابيع والشهور المقبلة ما إذا كانت موجودة، أم أنها ستكون مجرد مناورة لتمرير استحقاق دخول بايدن إلى البيت الأبيض، وارتدادات ذلك على بعض الدول

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس