د. علي الصلابي-خاص ترك برس

رغم أنَّ سلطان العلماء، الفقيه عز الدين بن عبد السلام لم يقصد عند كتابته لمؤلفاته تخصيصها للقانون الدولي، والعلاقات الدولية، إلا أنَّ مطالعتها تبين لنا انشغاله بطريقةٍ، أو بأخرى، بأمورٍ تدخل في إطارها سواءٌ تعلَّقت بها مباشرة، أو لكونها تمثِّل قواعد عامةٍ أصوليةٍ، تنطبق عليها أيضاً. وأهمُّ الوسائل التي عالجها ابن عبد السلام تتمثَّل في الأمور الاتية:

أولاً: السلطة الحاكمة في نظر عز الدين بن عبد السلام:

عالج الإمامُ عز الدين بن عبد السلام السلطة الحاكمة كعنصرٍ من عناصر الدَّولة الحديثة من زوايا متعدِّدة، أهمها:

أ. ضرورة توفر العدل لدى الحكام:

 يقرِّر عزُّ الدين بن عبد السلام: أنَّ العادل من الأئمة، والولاة من الحكام أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام؛ لأنهم يقومون بجلب كلِّ صالحٍ كامل، ودرء كلِّ فاسدٍ شامل. واشتراط العدالة يعدُّ أمراً لازماً؛ لتكون وازعةً عن الخيانة، والتقصير في الولاية، ولأنَّ العدل ـ وهو التسويةُ لغةً مع إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه ـ يعتبر عنصراً لازماً لحياة أيِّ مجتمعٍ. ومع ذلك يقرِّر العزُّ بن عبد السلام: أنَّ اشتراط العدالة في الإمامة الكبرى فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، فيقرِّر: ولو شرطناها لتعطَّلت التصرفات الموافقة للحقِّ في تولية من يولُّونه من القضاء، والولاة، والسعاة، وأمر الغزوات، وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وقبض الصَّدقات، والأموال العامَّة، والخاصَّة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحقِّ؛ لما في اشتراطها من الضَّرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السُّلطان.

ب. تولية الصَّالح، أو الأصلح (مع عزل المريب):

يعتبر الحاكم رأس الدولة، أو الإقليم الذي يحكمه، وبالتالي بات من الواجب أن يكون أصلح من تتوافر فيه الشروط اللازمة للقيام بهذه المهمَّة، لذلك يرى سلطان العلماء: أنَّ على الإمام أن يعزل الحاكم إذا أرابه منه شيء؛ لما في إبقاء المريب من المفسدة؛ إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية خاصَّة؛ لما يخشى من خيانته فيها، وإذا سلم تكن هناك ريبةٌ، ووجب التفرقة بين فروض ثلاثة:

الأول: أن يعزله بمن هو دونه، ففي هذا الفرض لا يجوز عزله؛ لما فيه من تفويت المسلمين المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره، ولأنه ليس للإمام تفويت المصالح من غير معارض.

الثاني: أن يعزله بمن هو أفضل منه، وهذا جائزٌ؛ لما فيه من تقديم الأصلح على الصَّالح، ولتحصيل المصلحة الصَّالحة للمسلمين.

الثالث: أن يعزله بمن يساويه. وهذا جائز في نظر البعض؛ لما له من حقِّ الاختيار عند تساوي المصالح، ولما له من حق التخير بينهما في ابتداء الولاية. بينما يرى اخرون عدم جوازه لما فيه من كسر العزل، وعاره بخلاف ابتداء الولاية.

ج. التصرفات الصادرة من غير ولاية صحيحة:

تعرَّض العزُّ بن عبد السلام كذلك للتصرفات التي قد تصدر من أشخاص ليس لهم الحق في القيام بها، ولكن نظراً لصدورها في ظروفٍ معيَّنةٍ؛ فإنها تعتبر صحيحةً، وقد تعرض لصنفين من التصرُّفات هما:

أ. تصرفات الأئمة البغاة:

  تعتبر هذه التصرفات نافذةً مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنَّما نفذت تصرفاتهم لضرورة الرعايا، كما أنه إذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة، والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنَّه لا انفكاك للناس عنهم.

ب. تصرف الاحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة:

  إذا كانت القاعدة العامة تقضي بأن الأموال العامة لا يتصرَّف فيها إلا الأئمة، ونوابهم؛ فإنه إذا تعذر قيامهم بذلك، وأمكن القيام بها بواسطة فرد، أو أكثر؛ جاز ذلك، على أن ذلك مشروط بصرفه إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه: بأن يقدم الأهمَّ، فالأهم، والأصلحَ فالأصلح، فيصرف كلَّ مالٍ خاصٍّ في جهاته أهمِّها فأهمِّها، ويصرف ما وجد من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها، فأصلحها لأنا لو منعنا ذلك؛ لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقِّيها، فكان تحصيل هذه المصالح، ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها. وإذا جوز الشرع لمن جحد حقَّه أن يأخذ من مال جاحده، إذا ظفر به؛ إن كان من جنسه، وأن يأخذه، ويبيعه؛ إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصَّةٌ؛ فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى.

ثانياً: بعض القواعد التي يمكن تطبيقها في إطار العلاقات الدُّولية عند الإمام عز الدين بن عبد السلام:

  تتميز العلاقات الدولية الحالية بصفتها الاجتماعية، وبترابط، وتداخل أواصر العلاقات الموجودة بين مختلف أشخاص القانون الدولي، والعلاقات الدولية، أو السياسية الخارجية لأيِّ بلدٍ معيَّن؛ تنبع أو يجب أن تنبع من المصلحة العليا لشعبه مع مراعاة ظروف البيئة؛ التي يتمُّ في داخلها اتخاذ القرار، وسنجد ـ بإذن الله ـ بأنَّ الإمام عز الدين بن عبد السلام قد عالج بطريقةٍ عامَّةٍ ما قلناه، ويمكن أن نركز فكره حول ثلاثة أفكار أساسية، نطلق عليها المسمَّيات الاتية: ترابط العلاقات الدَّولية، ونظرية تدرُّج العلاقات الدولية، وأخيراً نظرية الضرورة.

ترابط العلاقات الدولية:

تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس فكرة الترابط، أو التداخل، أو التشابك، والتي يرجع تفسيرها أساساً إلى حاجة أفراد المجتمع الدولي بعضهم لبعض، وإذا كان العزُّ بن عبد السلام لم يتحدَّث عن المجتمع الدولي صراحةً؛ إلا أنَّ ذلك يمكن استنباطه ممَّا قاله في الفقرة الاتية: اعلم: أنَّ الله تعالى خلق الخلق، وأحوج بعضهم إلى بعض؛ لتقوم كلُّ طائفةٍ بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر، والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء بمصالح الفقراء، والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنِّساء بمصالح الرِّجال، والرِّجال بمصالح النساء، والرَّقيق بمصالح السادات، والسَّادات بمصالح الرقيق، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين، أو أحدهما، أو إلى دفع مفاسدهما، أو أحدهما.

  ضرورة تدرج العلاقات الدولية لبلد ما:

  نحن نعتقد: أنَّ العلاقات الدولية إذا كانت تتسم حالياً بصفة الشُّمولية، أو الكلِّية إلا أنها ـ بالنسبة لبلدٍ معيَّنٍ ـ يجب أن يتمَّ تخطيطها في إطار ظروف هذا البلد، وعلى ضوء إمكانياته، ومقدَّراته، والنتيجة اللازمة، والمترتبة على ذلك المفهوم هو منع التهوُّر، أو التخبُّط في رسم، أو اتخاذ سياسةٍ خارجيَّةٍ معيَّنةٍ، ولعلَّ ذلك ما قصده الإمام ابن عبد السلام حينما قرر: أنَّه إذا اجتمعت المصالح، فإن أمكن تحصيلها؛ حصَّلناها، وإن تعذَّر تحصيلها حصَّلنا الأصلح فالأصلح، والأفضل فالأفضل. ويضرب لذلك أمثلةً دوليةً، من بينها:

 أنَّ الجهاد لو وجب في الابتداء؛ لأباد الكفرةُ أهلَ الإسلام؛ لقلَّة المؤمنين، وكثرة الكافرين.

 أنَّ القتال في الشهر الحرام لو أُحِلَّ في ابتداء الإسلام؛ لنفروا منه لشدَّة استعظامهم لذلك. وكذلك القتال في البلد الحرام، كلُّ ذلك دلالةٌ قاطعةٌ على أنه لا يجوز تقرير شيءٍ، أو اتخاذ قرارٍ إلا على ضوء البيئة التي سيطبق فيها، ومع مراعاة كافة الظروف، والمواقف، وأنَّ اتخاذ قرار في إطار العلاقات الدولية قد تُحتِّم الظروف ضرورة تدرُّجه.

ج. نظرية الضرورة:

 تعتبر حالة الضرورة من المبادئ المسلَّم بها في إطار النظرية العامَّة للقانون، وهي مبدأ مطبَّق في مختلف النظم القانونية، بما في ذلك النظام القانوني الدولي، فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها، ذلك: أنه إذا اجتمعت المفاسد مع تعذُّر درئها جميعاً؛ درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، ويضرب الإمام عز الدين بن عبد السلام مثالاً لذلك بما جرى في إطار العلاقات الدولية أيام الرسول (ﷺ) بخصوص صلح الحديبية: فإن قيل لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين، وإعطاء الدنيَّة في الدين؟ قلنا: التزام ذلك دفعاً لمفاسد عظيمةٍ، وهي قتل المؤمنين، والمؤمنات، فاقتضت المصلحة إيقاع الصُّلح على أن يُرَدَّ إلى الكفَّار مَنْ جاء منهم إلى المؤمنين، وذلك أهونُ مِنْ قتل المؤمنين الخاملين.

ثالثاً: حقوق الإنسان عند الإمام ابن عبد السلام:

  تعرَّض الإمام ابن عبد السلام للعديد من مسائل حقوق الإنسان، يمكن أن نجمعها في أمرين: مسؤولية السلطة الحاكمة، وأنواع حقوق الإنسان.

أ. مسؤولية السلطة الحاكمة:

 يقول ابن عبد السلام: وأما ولاة السوء، وقضاة الجور؛ فمن أعظم الناس وزراً، وأحطهم درجةً عند الله؛ لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام، ودرء المصالح الجسام. وإنَّ أحدهم ليقول الكلمة الواحدة، فيأثم بها ألف إثم، وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك من مصالح المسلمين، فيا لها من صفقة خاسرة، وتجارة بائرة! ويشير ابن عبد السلام إلى أمرٍ هام، يعالج نفوس كثيرٍ من الحكام، وهو وقوعهم في المظالم، فيحثُّهم على فعل العدل، وترك الظلم؛ حيث إنَّ ما فوتوه من الأموال مضمونٌ عليهم في الدِّين: «فإن فنيت حسناتهم؛ طرح عليهم من سيئات مَنْ ظلموه». وكذلك الحكم في الدماء، والأبضاع، والأعراض، وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها، أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها، فقد قال رب العالمين: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْم الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾.

ب. تقسيمات الحقوق والأمور التي تتعلق بها:

يقسم ابن عبد السلام حقوق الربِّ، وحقوق العباد أقسامٌ: أحدها متساوٍ، وثانيها متفاوت، والثالث مختلفٌ في تساويها، وتفاوتها.

 فقد تطرَّق إلى تقديم حقوق بعض العباد على بعض لترجيح التقديم على التأخير في جلب المصالح، ودرء المفاسد. مثال ذلك: تقديم نفقة زوجه، وكسوتها، وسكناها على نفقة أصوله، وكسوتهم، وسكناهم

وأشار ابن عبد السلام أيضاً إلى حالة التساوي في حقوق العباد، فيتخيَّر فيه المكلف جمعاً بين المصلحتين، ودفعاً للضررين، مثال ذلك: التسوية بين الزَّوجات في القَسْم، والنفقات. وتسوية الحكام بين الخصوم في المحاكمات.

وأشار كذلك إلى تقديم حقوق الربِّ على حقوق عباده إحساناً إليهم في أخراهم. مثال ذلك: التغرير بالنفوس، والأعضاء في قتال مَنْ يجب قتاله.

 وأشار أيضاً إلى تقديم بعض حقوق العباد على حقوق الربِّ رفقاً بهم في دنياهم، كالأعذار المجوِّزة لقطع الصَّلوات، ولترك الجهاد.

وتعرَّض ابن عبد السلام لأمورٍ أخرى تتعلَّق بحقوق الإنسان، منها:

قاعدة لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه، وأشغاله إلا ما استثني، كاستدعاء الحاكم للمدَّعي بناء على طلب خصمه، أو استدعائه للشهود.

ويقول ابن عبد السلام: إنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعاً للضغائن، والأحقاد، وللرِّضا، بما جرت به الأقدار، وقضاء الملك الجبَّار، وتعليقاً على قوله تعالى: يقول ابن عبد السلام: وإذا كان هذا في حقوق اليتيم؛ فأولى أن يثبت في حقوق عامَّة المسلمين فيما يتصرف فيه دائماً من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر، وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصَّة.

ج. قواعد ومبادئ أخرى قررها ابن عبد السلام:

 يمكن إيجاز بعض القواعد، والمبادئ التي قرَّرها ابن عبد السلام، والتي يمكن الاستفادة منها في مجال القانون الدولي، والعلاقات الدَّولية، كما يلي:

 قاعدة: وأما مصالح الدنيا، وأسبابها، ومفاسدها؛ فمعروفةٌ بالضرورات، والتجارب، والعادات، والظنون المعتبرات، فإن خفي شيءٌ من ذلك؛ طلب من أدلَّته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات، والمصالح، والمفاسد: راجحها، ومرجوحها؛ فليعرض ذلك على عقله بتقدير أنَّ المشرع لم يَرِدْ به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكمٌ منها يخرج عن ذلك، وبذلك تعرف حسن الأعمال، وقبحها.

 الإمام والحكم: إذ أتلف شيئاً من النفوس، أو الأموال في تصرُّفها للمصالح فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم، والإمام، لأنهما لمَّا تصرفا للمسلمين؛ صار كأنَّ المسلمين هم المتلفون، ولأنَّ ذلك يكثر في حقهما، فيتضررون به.

 ويرى ابن عبد السلام: أنَّ من أمثلة المشتملة على المصالح، والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها وجوب إجارة رسل الكفَّار مع كفرهم، لمصلحة ما يتعلَّق بالرسالة من المصالحة الخاصَّة والعامة. ولعلَّ ابن عبد السلام يكون ـ بهذه القاعدة الأخيرة  قد أشار إلى مبدأ حصانة وحرمة السفراء، والمبعوثين الدبلوماسيِّين، وهو مبدأ استقرَّ عليه القانون الدولي المعاصر.

هذه بعض الخطوط العريضة فيما يتعلَّق في جهد الشيخ عز الدين في تطوير قواعد القانون الدَّولي، والعلاقات الدَّولية.


المصادر والمراجع:

أحمد أبو الوفا، الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/279). (13/381). (13/381). (13/382).
العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/143). (1/95). (13/387). (13/13/387) (13/387).
علي محمد الصلابي، عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء، ص43-50.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس