ترك برس

قلما تظهر شخصيات شهيرة يجتمع على حبها وتأييدها كافة أطياف المجتمع على اختلاف خلفياتهم وأيديولوجياتهم. وهذا ما ناله بالضبط، أيقونة الموسيقى الشعبية التركية مسلم غورسيس الذي نال الفيلم الذي يتناول حياته، لقب أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما التركية.

بدأ مسلم غورسيس (لقبه الأصلي أكباش لكنه غيّره إلى غورسيس) حياته مُثقلاً بذكريات الماضي الأليم ومشاكل أسرته التي حرمته من عيش طفولته، حيث كان والده صعب المِراس وحاد الطّباع ومتسلطاً على والدته وأبنائه. ظلّت مشاهد ضرب والدته ماثلة ومنقوشة في مُخيلة مسلم، ليقضي حياته باحثاً عن سعادته المفقودة.

شقّ مسلم طريقه إلى النجاح بقسوة وصعوبة، إذ كادت موهبته الغنائية أن تضيع في محلّ صغير لتصليح الأحذية، بعد أن أرغمه والده على العمل به وحرمانه من المدرسة أو حتى ممارسة حلم حياته، الغناء. كانت أسعد أيام مسلم هي فترة غياب والده عن المنزل بعد سجنه لمدة سنتين بتهمة السرقة، ليشارك في المسابقات الغنائية ويصنع لنفسه جمهوراً من المعجبين الذين وجدوا في صوته سحراً أطربهم ولخص أحزانهم وغربتهم في إسطنبول وأضنة وغيرهما من كبريات المدن التركية.

وبعد ذيوع صوته وطَرقِ النجاح بابه، انتقل مسلم من أرياف الأناضول الفسيحة إلى مسارح وصالات إسطنبول المكتظة. ويحاول سيناريو الفيلم في النهاية تعريف الجمهور فن "الأرابيسك" الشعبي التركي، الذي لا يمكن التطرق إليه بمعزل عن حياة وغناء مسلم غورسيس، إذ امتزج تطور ونشأة هذا النوع الغنائي بحياة الفنان، بل بهيئة وملامح وشخصية مسلم.

يفتتح مخرجا فيلم "Müslüm Baba"، السيناريو بمشهد يُلخّص مسيرة البطل وحياته الصعبة. يظهر الصبي الذي أتعبه الجري في محيط إحدى قرى الريف التركي، وهو يُسرع خطاه لنقل خبر دفن أخيه الأصغر إلى والده الجالس بكل راحة بال برفقة آخرين يحتسون الشاي مستظلين بشجرة وكأنه يوم عادي في حياته، لكن استقباله للخبر وردّة فعله الباردة تضع المشاهد في سياق القصة، إذ اكتفى الأب بإرسال حفنة من التراب تلقفها الطفل راسماً نفس المسار في طريق العودة إلى أمه، الباكية برفقة نساء القرية، لينثر حفنة التراب تلك على قبر أخيه.

ويلاحظ المشاهد أن الابتسامة الوحيدة التي رُسِمت على شفاه بطل الفيلم كانت في أثناء فترة سجن والده. وككل يوم عاد مسلم إلى البيت فرحاً، ليُفاجأ بوجود الأب المتسلط جالساً ليتعكّر مزاج العائلة. لم يكن ذلك اليوم عادياً، فقد انتهى بفاجعة مأساوية. وفي أجواء ماطرة ووسط صخب الموسيقى المتسارعة، يثور الأب غضباً ليُردي زوجته وابنته الرضيعة قتيلتين أمام أعين مسلم وشقيقه أحمد، ليتأكد حينها أن الفرح والسعادة لن يجدا طريقهما إليه أبداً، بحسب تقرير لـ "TRT عربي."

كانت تلك اللحظة مفصلية في حياة مسلم ومن تبقى من عائلته على قيد الحياة، ففي حين عاد الأب إلى السجن ثانية، هجر مسلم مدينة أضنة التي ارتبطت في ذهنه بحياة الطفولة والذكريات الأليمة. وكحال غيره من النجوم اللامعين فإن مكانهم هو المدن الكبيرة الصاخبة كإسطنبول، التي يبدأ فيها صحفة جديدة من حياته.

وقبل تركه مدينة أضنة، تعرّض في طريق عودته من إحياء حفل موسيقي سنة 1970 لحادث مروري خطير قضى فيه السائق، بينما أُصيب مسلم بجروح بليغة رُسِمت ندوبها وآثارها إلى الأبد على جبينه وجسده المتعب أصلاً. وكادت تلك الحادثة أن تُبعده عن طريق الغناء الذي شقّه بصعوبة، حيث فقد السمع في إحدى أذنيه وتم زرع لوحة حديدية في مقدمة رأسه، لينصحه الطبيب بترك الغناء كليةً إن كان يريد الحفاظ على حياته. والمثير في أحداث الفيلم أن الشخصية الرئيسية قد وُضِعت في ثلاجة الموتى، وهي لحظة شدّ المشاهد معها قلبه بعد اعتقاده أن هذه الموهبة الفنية الصاعدة قد انتهت في مهدها، لكن سريان القصة أعاد البطل إلى الحياة في تنسيق منطقي ومشوّق.

يستطيع المشاهد أن يُدرك، دون كثير عناء، أن الحبكة الدرامية للفيلم تأتي بعد الحادث الأليم، إذ تحوّل مجرى الأحداث في اتجاه آخر، ليدفع القصة إلى الأمام. ونجحت حبكة الفيلم في تحقيق هدف القصة عبر الصراع الذي نشأ بين قوى متضادة (ظروف البطل الصحية والاجتماعية) وصولاً إلى ذروة الأحداث وحل لغزها، بعد تخطي مسلم للصراع وعودته إلى الغناء على المسارح.

ويُجمع نقاد السينما أن انتقام بطل الفيلم يُعدّ من أكثر الحبكات الكلاسيكية اعتماداً في السينما، لما تحظى به من تعاطف جماهيري مع البطل "المُنتقم" مهما ارتكب من مخالفات وتجاوزات. وتُبنى حبكة معظم الأعمال الدرامية على المجرم الذي يتمادى في إلحاق الضرر بالناس، والبطل "الطيب" الذي يثأر وينتقم منه. وقد خلا الفيلم من هذا النوع من الحبكات، لكنه لم ينقص من قيمة القصة وتماسكها، رغم أن مسلم تعرّض للظلم حتى من أقرب المقربين (والده) فإنه لم ينتقم، عكس أخيه أحمد، وواصل حياته محبّاً للآخرين وليس له من هدف سوى تحقيق طموحه.

وبعد خروجه من المستشفى، بدأ مسلم بابا كفاحه للتعافي واستعادة قدرته على الغناء والعودة إلى حياته الطبيعية، وظلّت كلمات معلمه علي ليمونجو تتردد في ذهنه: "لا يستطيع أحد أن يسكتك، صوتك لن يختفي إلا إذا قررت أنت ذلك".

وهاجر مسلم غورسيس إلى مدينة إسطنبول بعد توقيعه عقداً مع شركة إنتاج موسيقي، ليحقق ألبومه "قوافل مليئة بالحب" نجاحاً باهراً بمبيعات فاقت 300 ألف أسطوانة. وأنتج 13 ألبوماً مع شركة "بلاندوكين"، لتتهاطل عليه العروض من شركات إنتاج موسيقي أخرى. وزادت ألبوماته الغنائية عن الستين طيلة مسيرته الفنية.

وبعد بزوغ نجمه في عالم الغناء الشعبي التركي، خاض مسلم غورسيس أولى تجاربه السينمائية من خلال مشاركته في فيلم "العاصي" عام 1979، ليؤدي أدواراً مختلفة لاحقاً في 38 فيلماً.

وبعد كل المآسي التي عاشها، يحين وقت تذوّق الحب بعد تعرّفه الممثلة والمغنية التركية الشهيرة محترم نور، التي تكبره بـ21 عاماً. وفي سنة 1980 وخلال إحدى جولاته الغنائية في مدينة ملاطية شرقي البلاد، التقى المراهق مسلم الفنانة محترم نور، ليدور بينهما نقاش حاد انتهى بقصة حب طويلة تُوّجت بزواج سعيد ومستقر دام حتى وفاته سنة 2013.

وقد أدّى دور مسلم خلال طفولته الممثل شاهين كنديرجي، فيما جسّد الممثل تيموجين أسان، دور البطل إبّان المراهقة. وأدّت الممثلة زرين تكيندور دور الفنانة نور. كما شارك ممثلون آخرون كبار مثل أيجا بنغول، وأركان كان، وتانر أولماز، وأركان أفجي، وغنير كورطران.

وبعد شهر واحد من عرضه في قاعات السينما التركية أواخر سنة 2018، باع فيلم "مسلم بابا" أزيد من 5 ملايين تذكرة. وبلغ إجمالي إيراداته حينها 67 مليون ليرة تركية (12.75 مليون دولار).

وبذلك يُحطّم الفيلم الذي يروي قصة فنان الموسيقى الشعبية الشهير، مسلم غورسيس، الأرقام القياسية في السينما التركية، ليعتبر الفيلم الروائي الطويل الأكثر مشاهدة.

مُنح مسلم غورسيس لقب "الأب الروحي" لموسيقى الأرابيسك، وتوفي بتاريخ 3 مارس/آذار سنة 2013، عن عمر ناهز 60 عاماً في مستشفى بإسطنبول بعد خضوعه لعملية جراحية في القلب.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!