د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

خيبت نتائج زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى الدوحة آمال البعض ممن كان يمني النفس بعدم حصول أردوغان على ما كان يريده من اتفاقيات متعددة الأهداف والجوانب. وأفشلت توقعاتهم أيضا باحتمال انفراط عقد التحالفات العسكرية والأمنية والسياسية بين البلدين. كل ما بقي بين أيديهم كان التسلي بعدم حدوث لقاء قمة تركي سعودي في الدوحة بين الرئيس التركي المغادر وبين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان القادم، وهو السيناريو الذي روجت له بعض وسائل الإعلام الغربية ثم حسمت المسألة على طريقتها أيضا أن لا رغبة للجانبين بذلك. لم يكن هناك على جدول الطرفين أصلا احتمال لقاء بينهما مع أننا كنا بين من يمني النفس بوقوع مفاجأة من هذا النوع.

أهمية زيارة أردوغان للدوحة هي أنها تأتي بعد أيام على زيارة ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد  للعاصمة التركية، وإنجازها قبل ساعات من وصول بن سلمان إلى الدوحة على هامش جولة خليجية متعددة الأهداف. كذلك يأتي هذا التحرّك وسط تفاعلات خليجية شرق أوسطية تشمل مراجعة المواقف والسياسات في الحوار التركي الخليجي الجديد على المستوى الثنائي والإقليمي والتحضير للقمة الخليجية المرتقبة والتي يتوقع أن تحمل الجديد خليجيا وعربيا وإقليميا.

الزيارة واكبتها رسائل أردوغان حول ضرورة تحسين العلاقات التركية مع الرياض ومصر وتل أبيب. لكننا فهمنا أيضا أن الحوار القطري الخليجي لن يكون على حساب التقارب التركي القطري وأن ترميم العلاقات التركية مع الخليج لن يكون على حساب ما شيد تركياً وقطرياً في العقد الأخير تحديدا.

هدف تركيا وقطر من خلال الزيارة هو رسميا تفعيل دور اللجنة الإستراتيجية العليا بين البلدين، لكن عدد العقود والاتفاقيات الموقعة يعكس توجهاً لتطوير علاقات بناءة وتاريخية بعيدة المدى. اللقاء رقم 29 بين الرئيسين التركي والأمير القطري خلال 6 سنوات وهو رقم قياسي في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين دولتين لا تجمعهما حدود جغرافية مشتركة.

صحيح أن العامل الاقتصادي والخروج من أزمة سعر صرف الليرة أمام الدولار بين أولويات تركيا في البحث عن مصادر استثمار وتمويل وجلب العملات الصعبة ورفع أرقام التصدير . وصحيح أن خصوصية الزيارة هذه المرة هو توقيع 15 اتفاقية تعاون ثنائي بين أنقرة والدوحة، إلا أنها تضع الملفات الإقليمية على طاولة البحث بقدر ما تناقش ملفات العلاقات الثنائية. قبل أن يبدأ  الرئيس التركي زيارته للعاصمة القطرية يوم الإثنين المنصرم كان يدشن أكبر مصنع لصهر الزنك في ولاية سيرت جنوب شرقي البلاد، بشراكة مع قطر بقيمة 102 مليون دولار وبهدف أن يلبي نصف احتياجات تركيا من المادة ويوفر نصف مليار دولار سنويا بالنسبة إلى تركيا التي كانت تستورد كامل الزنك من دول أخرى. وكان أردوغان أيضا يضع حجر الأساس لمصانع الرصاص والفضة، كامتداد لمشروع مصنع صهر الزنك باستثمارات ستبلغ 500 مليون دولار.

وقفت تركيا إلى جانب قطر في أصعب ظروفها والدوحة فعلت ذلك مع أنقرة قي أشد المحن التي مرت بها في السنوات الأخيرة. بعد ذلك جاءت قرارات تمتين العلاقات وتحويلها إلى شراكة إستراتيجية ثنائية إقليمية. المسألة معروفة ولا تحتاج إلى نقاش. قطر ليست الشريك التجاري الخليجي أو العربي الأول لتركيا لكنها الشريك الإستراتيجي الثنائي والإقليمي في ملفات سياسية وأمنية كثيرة.

أرقام التبادل التجاري قد لا تصل إلى ملياري دولار لكن أرقام الاستثمارات المشتركة في البلدين تصل إلى 55 مليار دولار وهذا هو المقياس الآخر لحجم التنسيق والتعاون الإستراتيجي ربما.

المقاتلات القطرية كانت تتدرب في الأجواء التركية وأردوغان كان يتهيأ لزيارة القوات التركية الموجودة في الدوحة وليذكر الجنود الأتراك بما قاله لهم في تشرين الثاني عام 2019 " نحن لا نفرق بين أمننا وأمن قطر، أنتم صمام أمان لقطر ولشعبها". تفاهمات حول المشاركة الثنائية في إدارة مطار كابل وفي مشاريع إقليمية في جنوب القوقاز ومع روسيا وإيران وباكستان والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى. وربما في ممرات التجارة عبر الخليج بأكثر من اتجاه. هذا الحراك يأتي طبعا على وقع مساع إقليمية ودولية لحلحلة أزمات الشرق الأوسط، وأبرزها ملف إيران النووي والقلق الخليجي بشأن سياسات طهران. سيكون للعامل الإيراني دوره في حسم مسألة التطبيع مرة أخرى بين تركيا والعواصم الخليجية كما يبدو.

الحقيقة هي وجود 90 اتفاقية تركية قطرية في العقد الأخير بأكثر من مضمون وهدف اقتصادي أمني سياسي واجتماعي تعني الكثير حتما لكن الأهم على ضوء ما سمعناه من الجانبين كان التفاهم حول سقوط تقديرات موقف غربية تقول إن مصير العلاقات التركية القطرية هو بعد الآن تحت رحمة مسار العلاقات التركية الإماراتية أو التركية السعودية أو التركية المصرية.

الدوحة حلقة من منظومة الخليج الجغرافية والسياسية والتاريخية والاجتماعية لكن أزمة عام 2017 فتحت الأبواب أمام تفاهمات وتنسيق وتعاون قطري مع العديد من الدول الإقليمية والغربية التي دعمتها إبان محنتها وتركيا كانت الدولة الأكثر حماسا واندفاعا في الوقوف إلى جانب قطر.

يقول وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن قطر تساهم بتحسين علاقات تركيا مع دول المنطقة وهي مشكورة على جهودها. أردوغان يقول أكثر من ذلك "لا نود على الإطلاق رؤية توترات وصراعات وعداوات في هذه المنطقة". كانت السياسة التركية الخليجية قبل 4 أعوام أمام مفصل سياسي مهم حسم لصالح قطر والوقوف إلى جانبها على حساب سياسة تركية معروفة هناك باتجاه الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. لم يكن هدف أنقرة الدخول في مواجهة مع هذه العواصم بل الدفاع عن علاقاتها ومصالحها مع قطر بعدما وجدت أن اسمها مدرج على لائحة المطالب والشروط المقدمة للدوحة باتجاه إنهاء العلاقات معها. من يتلمس موقفا تركيا أو قطريا جديدا في مسألة العلاقة مع الخليج عليه أن يكون جاهزا للتعاون بعيدا عن الشروط المسبقة التي فشلت مع الدوحة وهو يعرف أنها لن تنفع مع أنقرة أيضا.

ما الذي سيجري الآن؟

لعب البعض سيناريو الصمت التركي حيال توقيف فرنسا لمواطن سعودي زعمت أنه مشتبه به في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، أنقرة تبدل من أساليبها في الملف وتريد إرضاء الرياض بصمتها هذه المرة". الشرطة الفرنسية حسمت المسألة بعدما أفرجت عن الموقوف لأن الأسماء اختلطت عليها. ونسمع أحيانا من يردد في سره أن الفرصة لا تعوض لإسقاط الضحية أرضا "النظام التركي ضعيف ومعزول وهو سيقدم التنازلات لكل الراغبين". لكن عددهم ضئيل هم مجموعة المراهنين على إلزام تركيا بتنازلات أو تراجعات عبر استغلال أزماتها الاقتصادية والمالية بدفعها نحو انسحاب سياسي اقتصادي عسكري من منطقة الخليج، وبعدها إلزامها بانسحاب آخر من القارة الأفريقية، وإغلاق قاعدتها العسكرية في الصومال وإلغاء اتفاقياتها الإستراتيجية مع الحكومة الليبية. من يهمه ذلك هو في الجناح الغربي الأوروبي اليوم أكثر من أن يكون في الجناح العربي الخليجي.

قال لي أحد المحللين العرب خلال حوار تلفزيوني قبل أيام إن القيادات السياسية في أنقرة لم تعد تتحدث عن شعار رابعة وعن السيسي في الحكم وأنه "على تركيا إنهاء احتلالها لجزء من الأراضي السورية".. النصيحة هي بقراءة تاريخ الدبلوماسية التركية في العقود الأخيرة مرة أخرى ولكن بنظارات جديدة. هناك من لم يستوعب بعد كيف تتعامل أنقرة مع ملفات وطنية وإقليمية لها ارتباطها بالأمن القومي التركي.

 نظرة خاطفة على سياسة تركيا مع دول الجوار في العقود الأخيرة قد تسهل مهمة التعرف أكثر فأكثر إلى كيفية تصرف تركيا مع الراغبين بتحريك أحجار قبرص وشرق المتوسط وشمال أفريقيا وملفات الأزمة في سوريا والعراق وإيران وجنوب القوقاز وحوض البحر الأسود ضدها.

أخطأت قيادات العدالة والتنمية في رسم سياسات التعامل مع ملفات إقليمية وأعلنت أنها بدأت تراجع قراراتها ومواقفها وأساليبها، لكن حلم البعض بمحاولة استغلال الأزمات الاقتصادية أو المالية في تركيا لفرض مطالب أو شروط عليها أو إلزامها بتنازلات من طرف واحد، هي الورقة التي ستسقط أرضا في وحول أمطار أنقرة وتذهب إلى مصيرها سواء أكان حزب العدالة في الحكم أم لم يكن. أنقرة ستحترم حتما قرارات ورغبات من لا يريد المصالحة أو ما زال يتحفظ أو يتردد في الاقتراب منها نحو سياسة انفتاحية عربية وخليجية وإقليمية جديدة. لكن من يرغب الصلح ويعرف جيدا لغة السياسة والدبلوماسية يعرف أيضا أن التنازلات لا بد أن تكون متبادلة يواكبها تفاهمات على اللقاء في منتصف الطريق. "شيلني أشيلك" هي القاعدة البراغماتية المعمول بها اليوم. من لا يريد أو يرغب بذلك له كامل الحرية برسم معالم سياساته وتحديد خياراته على هذا الأساس. نعرف أن بعض العواصم الغربية متمسكة كعادتها باستغلال الأوضاع واقتناص الفرص لكن ذلك ليس هو ما سمعناه أو تابعناه من قرارات وخطوات عملية انفتاحية نحو أنقرة من قبل القيادات السياسية في أبوظبي والرياض والقاهرة وبغداد وتل أبيب في الأشهر الأخيرة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس