محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس

عناوين كثيرة كانت حججا للتورط الروسي أو توريط روسيا في الحملة العسكرية ضد الأراضي الأوكرانية لعل أهمها الادعاء لحماية حدودها الغربية البرية والبحرية عقب تكهنات وبواعث حقيقية للقلق من انضمام كييف لحلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وأن التصريحات الكثيرة والتحليلات المعمقة حول انضمام كييف للحلف قادتها أوروبا والغرب على وجه التحديد ولد ضغطا أثر بشكل مباشر على  موسكو والقيادة الروسية بجعل التخلص من هذا الكابوس منطلقا وهدفا ونتيجة للتحرك للقيادة الروسية.

لكن أوكرانيا العضو المرشح للانضمام لحلف الناتو تلقت ضربة قاسية في الأيام الأولى للحرب الروسية في موضعين، ففي الأولى تنصلت أوروبا والناتو من حماية ما سموه بالبوابة الشرقية لحلف الناتو من التدخل المباشر ضد روسيا إلى جانب أوكرانيا، والثانية عقدها  العزم (أوروبا) على إتلاف ملفات انضمام كييف لحلف الشمال الأطلسي تهادنا مع موسكو أو خشية توريط الحلف في مواجهة عسكرية غير محسوبة النتائج مطلقا.

لم تكن أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص على استعداد لتمويل نتائج التدخل المباشر إلى جانب كييف في الدفاع عن أرضها رغم أنها لم تكن على قدر من السعة الدخلية في تحمل النتائج الكارثية لمخلفات وتبعات الحرب حتى دون تدخلها المباشر، فأوروبا تعاني من تدهور اقتصاد عدة دول، منها اليونان وإيطاليا وإسبانيا – كل هذه وألمانيا تحاول قدر المستطاع دعم اقتصاديات أوروبا عامة لوحدها بعد فرار الإنكليز من تحمل ترميمات ترهل جسد القارة العجوز.

فألمانيا الدولة الأولى التي ستصاب في مقتل إذا امتنعت عن توريد الغاز الروسي أو تلكّأ وصول إمدادات الغاز الروسي إليها لأنها تعتمد فيما يقارب من أقل من نصف إمداداتها من الغاز من روسيا بمعنى أنها ستقوم بإجراءات وقائية تقنينية للمحافظة على مستوى توفر هذه المادة الحيوية عندها لحين الحصول على إمدادات أخرى من منتجين آخرين ومن دول أخرى، كما أنها تحاول تعويض متطلبات زيادة أسعار تلك المادة والتي بدأت فورا بعد بداية دخول أولى الدبابات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية.

ومن هنا فإننا بالإمكان أن نقول إن الحرب بدأت بسبب استراتيجي أو جيوسياسي أو تأجيج صراع الحرب الباردة من جديد بين المعسكرين الشرقي والغربي باعتبار أن روسيا هي الابنة الشرعية للاتحاد السوفيتي السابق، تحولت إلى حرب اقتصادية تديرها أمريكا الآن وتتبعها أوروبا بخطوات متثاقلة مجبرة أو مخيرة، حتى لتظن أن العم سام استطاع سحب بوتين هو وجيشه واقتصاده لهذا المستنقع الموحل والعميق والواسع.

مما يعني وبعد ظهور نتائج الحرب أن المستفيد الأول من نتائج هذا الصراع، أو من ضمن صفحات هذا الصراع هي الولايات المتحدة لعدة أسباب أهمها:

أولا:- أنها تملك من الاحتياطي النفطي والإنتاجي ما يجعلها في منأى من حصول أزمة داخلية حول الطاقة، كما أن لها مصادر متعددة من الطاقة الغازية وبعقود طويلة الأمد أعدت بإتقان لمنع نضب إمداداتها في كل الأحوال.

ثانيا:- حتى في حالة زيادة الطلب للبترول وللغاز والزيادة المطّردة في الأسعار فإن زيادة أسعار النفط المنتج من الولايات المتحدة والتي تصدرها لدول العالم وأوروبا على وجه الخصوص كفيلة بتعويض فرق أسعار الغاز المستوردة من قبلها.

ثالثا:- ولا ننسى أن معظم الشركات النفطية الحقلية وكذلك البتروكيميائية العالمية تابعة أو لأمريكا حصة معتبرة تستطيع فرض إرادتها على باقي الشركاء، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن شركة شل النفطية (الأم ) والتي مقرها في هولندا، تملك الولايات المتحدة 40% منها أي أقل من النصف بقليل والباقي من الحصص لبقية الأعضاء.

في المقابل ورغم أن الروس الذين سيعانون كثيرا من العقوبات الاقتصادية فإنهم قد عقدوا العزم في أسوأ الظروف لبيع كامل إنتاجهم للغاز للصين، طبعا باتفاق الطرفين سابقا بعد نشوء النزاع – مما يعني أن الروس لن يكونوا أيضا الطرف الخاسر تماما، ولست هنا بصدد الحديث عن العقوبات الاقتصادية خارج مجال الطاقة.

أوروبا والتي هي أقرب من كل الدول للهب النار المستعرة في نهايات أوروبا تعاني ما تعانيه الدولة الآيلة للسقوط بسبب سياساتها الغير المتوازنة وتورطها بإيجاد عملة موحدة وخروج بريطانيا في وقت محرج من كيان الاتحاد الأوروبي، ستكون أكثر ضررا من كل دول العالم في نتائج النزاع بل وإنها لامست الضرر مع دخول أول دبابة روسية في أوكرانيا.

هناك عدة عوامل تسهم في تعاظم ضرر أوروبا من النزاع الروسي الأوكراني نذكر منها ما يلي:

أولا:- أن دول أوربا مجتمعة بحاجة إلى الغاز الروسي وعلى سبيل المثال فإن ألمانيا تستورد 40% من احتياجاتها من روسيا وهولندا أكثر من تلك النسبة، مما يعني أن استقلاليتها وموقفها من النزاع الأوكراني الروسي بحاجة إلى الكثير من التريث، بل أن الدخول كطرف في النزاع من المحرمات لما تتركه من آثار مدمرة لدولها واقتصادها.

ثانيا:- الضغوط الاقتصادية التي تمارسها واشنطن ضد الدول التي تتبنى اتجاها مستقلا وربما مغايرا لمصالحها الاقتصادية والاتحادية، لأن واشنطن تعيش دائما في الظرف الآمن في كل الحوادث والنزاعات العالمية بعكس أوروبا التي تتأثر بصورة مباشرة في أية حادثة أو نزاع، وخصوصا في مجال إمدادات الطاقة.

ثالثا:- تتحمل بعض الدول الأوروبية وخصوصا ألمانيا تبعات ارتفاع الغاز والنفط إضافة إلى التزاماتها بدعم باقي الدول الأوربية كاليونان وإسبانيا وإيطاليا نوعا ما بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها هذه الدول.

بمعنى أدق أن أوروبا ستكون على المحك في وحدتها في حال استمرار النزاع لفترة طويلة، وربما قد ينظر إلى أن الدخول الروسي في أوكرانيا قد تم لغرض هدم الوحدة الأوروبية بصورة غير مباشرة، وبما أن الأمريكان هم المستفيدين الأكبر من نتائج النزاع، فلا من التفكير جديا بأن لواشنطن ضلع في نشوب النزاع بالشراكة مع روسيا، لأن واشنطن كانت تنظر للوحدة الأوروبية باعتبارها العقبة الصغرى في تنفيذ أيدولوجيتها وهيمنة نفوذها الاقتصادي والسياسي، ولا ننسى أن توقيف مد أنبوب السيل الروسي الممتد إلى ألمانيا من روسيا هي أولى شروط وطلبات واشنطن من الاتحاد الأوروبي.

بقي أن نعرف أن الاتحاد الأوروبي والذي كان لفترة طويلة يوازن علاقاته بين واشنطن وموسكو والصين وحتى دول آسيا الشرقية قد أصبحت بعيدة عن التوازنات السياسية الآن بعد نشوب النزاع الأوكراني الروسي، بل وأصبحت كعربة قطار تجرها قاطرة واشنطن حيث شاءت وأينما توجهت.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس