محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس

يؤكد المؤرخون أن الهدف من دراسة التاريخ هو لخدمة الحاضر والمستقبل بقصد الاستفادة من حيثيات الأحداث التي وقعت والتي في معظمها لا زالت تحدد مجمل نشاطات الدوائر المعنية سواء كانت استراتيجية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية أو ثقافية أو حتى اقتصادية، وهذا هو السبب الحقيقي للأهتمام بالوقائع  والتبحر في التفاصيل الكلية والجزئية.

وبمعنى أدق وكما يؤكد علماء التاريخ، هو تعبير عن اهتمامنا بحاضرنا ومستقبلنا أكثر مما هو تعبير عن اهتمامنا بماضينا، لأن الماضي قد طويت صفحته بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، من انتصارات وانكسارات ونجاحات وإخفاقات.

ويضيف هنا الدكتور سامي رشيد - لم يعد بإمكاننا تغيير أي شيء من وقائعه أو تعديل أي مفصل من مفاصله، ولكن علينا أن نستفيد من دروسه وعبره في تغيير حاضرنا ورسم معالم مستقبلنا، ومن هنا ينبع سر اهتمامنا به وأهمية دراسته واستحضاره.

والكتب التاريخية السياسية والمرتبطة بالمصالح الدولية وخصوصا ما بعد القرن السادس عشر هي من أهم الحواضر التي يجب أن تدرس بعناية للاستفادة من وقائعها ولمعرفة مخططات الجهات التي خططت لها وساهمت في إحداثها.

ومن هذه الكتب المهمة هو كتاب "السياسة الدولية في البحر الأحمر 1798- 1893) والذي يتناول حقيقة وأهمية البحر الأحمر الاستراتيجية وسبب قيام دول أوربا ومنها إنكلترا والبرتغال وغيرها من الدول بشن الهجمات تلو الهجمات للسيطرة على مداخله واحتلال موانئه.

هذا الكتاب من تأليف الدكتورة هند فخري المولى التدريسية في جامعة الموصل العراق وهو بالأصل أطروحة دكتوراه كانت قد ناقشتها السيدة الدكتورة منذ عدة سنوات وتمت الموافقة على طبع الكتاب لأهمية المحتوى، وهذا الكتاب هو كتاب في التاريخ السياسي الاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط بصورة عامة ومنطقة الخليج والبحر الأحمر بصورة عامة.

يتألف الكتاب من أربعة فصول، وتحتوي الفصول على عدة مباحث، فالفصل الأول يتناول الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية ودخوله في المنافسة الدولية ابتداء من نهاية القرن السابع عشر وما تلاها من أزمان.

ففي الفصل الأول، وهو الذي يهمنا في هذه المقالة تذكر الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر - والذي يتميز بموقعه الفريد عند ملتقى قارات العالم الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوربا مشكلا حلقة اتصال بين البحار الشرقية والغربية وهو على تماس مع عدة مناطق بالغة الأهمية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية والقرن الأفريقي ومتداخلة مع بعضها، وهو يعد من أهم المساحات المائية التي تربط البحار بالمحيطات فالمحيط الهندي مع الخليج العربي والبحر المتوسط مع المحيط الأطلسي وضمن امتداد هذا البحر شمالا وجنوبا، وبذا يعد أحد أهم البحار الاستراتيجية الملاحية في العالم والذي يوصل مناطق أوربا وشمالها مع المياه الدافئة الجنوبية. وازدادت استراتيجية البحر الأحمر بعد اكتشاف النفط في قلب العالم النابض بالطاقة بدرجة كبيرة حيث يمد النشاط الانساني والصناعي بإكسير الاستمرارية والحياة.

وتذكر الباحثة بأن المؤرخين أثبتوا وثائقيا أن هذه الاهمية الاستراتيجية  والمميزات السياسية والاقتصادية للبحر الأحمر قد عرفت منذ أربعة آلاف سنة، وترجع الريادة الاستكشافية لأهمية البحر الأحمر إلى الفراعنة المصريين، وكان للفينقيين الفضل في تحديد معالم الملاحة في مسالك البحر، مما يؤكد أن الاهتمام الكبير من مختلف الإمبراطوريات بالبحر الأحمر هو لأهميته السياسية والاقتصادية معا.

ونتيجة لأهمية البحر الاحمر الاستراتيجية كانت البلاد والمدن الواقعة عليه وخاصة في مداخله ومخارجه محلا لتطلعات الدول المتنافسة والمتحاربة للسيطرة عليه كونه طريقا حيويا يملك خاصية تنوع النشاطات التجارية والعسكرية.

وعن بداية التنافس الدولي في العصور الحديثة على البحر الأحمر تذكر الباحثة بأن قارة أوربا والتي تعاظم دورها في العالم، اتجهت نحو الشرق لعدة أسباب منها العامل الديني المعلن بقصد (كسب التأييد الواسع) وهو الذي توافق مع الهدف الاقتصادي مما خلق أولى بوادر الاستعمار الاستيطاني في المنطقة ومن ضمنها مناطق البحر الأحمر.

 والسبب الآخر كما تذكر الباحثة أن ظهور العثمانيين كقوة في البحر المتوسط وفتحهم القسطنطينية عام 1453 على يد السلطان محمد الفاتح جعل أوربا تشعر بالخطر ودفعها التعجيل لكسر الحاجز الذي شكله المسلمون من حولها ومنع الأوربيين من الوصول إلى مصادر تجارة الشرق، وهنا تذكر الباحثة بأن أولى الحملات الاستعمارية والصليبية كانت من البرتغاليين تحت ذريعة نشر الديانة المسيحية في الأراضي الإسلامية لأن الأوروبيين كانوا يتداولون عن وجود ملك نصراني يحكم في وسط آسيا وأفريقيا يسمى القديس يوحنا لذا رغب البرتغاليون في الوصول إلى هذا القديس والتحالف معه لضرب المسلمين من أمامهم ومن ظهرهم.

وربما ذكر البعض ومنهم الباحثة بأن أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية قد قللت شأنه لسبب ما، لكن وجود ثلاثة عشر ميناء في جهتيه الآسيوية والأفريقية ومنها بعض الموانئ المنشأة منذ مئات السنين ولا زالت تحظى بأهمية استراتيجية هامة رغم وقوع أكثرها في مناطق صحراوية، ومن أهم الموانئ ميناء العقبة وميناء جدة وميناء ينبع وميناء الحديدة وميناء السويس وميناء سواكن وميناء مصوع، وبهذا يثبت أن الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر لا زالت قائمة.

وفي الختام يجب أن ندرك أهمية البحر الأحمر في كونه يمثل جانبا من إقليم الشرق الأوسط والذي يعتبر من أكثر الأقاليم الغير المستقرة والتي تحظى بأهمية كبرى لدول العالم التي تحاول مد أذرعها في المناطق والبحار الدافئة، ويقع في قلب قوس ومنحنى عدم الاستقرار، كما حدده برجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، وهو القوس أو المنحنى الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الأفريقي ومنطقة المحيط الهندي. كما يقع ضمن الإطار الجيويولتيكي لمنطقة الخليج الاستراتيجية. فللبحر الأحمر أهمية استراتيجية للأمن القومي العربي في ثلاث دوائر الأمن العربي والأفريقي والأمن العالمى مركزها القرن الأفريقي. فهو يعتبر قناة وصل بين البحار والمحيطات المفتوحة ومن هنا تزيد أهميته الاستراتيجية سواء من الناحية العسكرية أو الاقتصادية أو الأمنية. وهو الطريق الرئيسي الذى يمر من خلاله نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية في أوروبا إذ تحتاج أوروبا إلى نقل 60% من احتياجاتها من الطاقة عبر البحر الأحمر وأيضًا نقل نحو 25% من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأميركية عبره.

وأخيرا يجب أن نعرف أن هذه الاطروحة التاريخية السياسية لا بد أن تكون معلما مستنيرا كغيرها من الكتب الغنية بمواضيعها  لمعرفة ومتابعة الأهداف الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والدينية التي هي من ضمن تطلعات دول أوربا وبعض دول العالم لمنطقتنا ومنطقة الشرق الأوسط حيث تتربع على قلب العالم النابض والتاريخ المجيد، ويجب الاستفادة من القراءة الدقيقة الواعية لحركة التاريخ.

وهذا ما أقصده من عرضي لهذا الكتاب المهم.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس