ترك برس

وصف تقرير بموقع "ديفِنس وان" العالمي، الاتفاق الثلاثي الذي تم إبرامه بين تركيا والسويد وفنلندا، مؤخراً، حول عضوية الأخيرين في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، بأنه "انتزاع نصر سياسي" لصالح أنقرة، متسائلاً " ماذا قدَّمت السويد لأنقرة من أجل عضوية الناتو؟"

التقرير أعدّه كل من "جاكلين فِلدشر"، المراسلة البارزة لشؤون الأمن القومي بموقع "ديفِنس وان"، و"إليزابيث براو"، الباحثة والزميلة بمعهد "أميركان إنتربرايز"، ونشره موقع "ميدان" التابع لشبكة الجزيرة القطرية.

المادة التحليلية المكونة من تقريرين، تسلط الضوء على بدء عملية انضمام السويد وفنلندا إلى "ناتو" في أعقاب قمته الأخيرة بمدريد، على خلفية أسابيع من المفاوضات العسيرة بينهما وبين تركيا لدفعها لتغيير موقفها الرافض لانضمامهما، واضطرارهما للموافقة على معظم مطالب أنقرة.

وفيما يلي النص الكامل للتقرير:

أعلنت تركيا دعمها لعضوية فنلندا والسويد في "ناتو" بعد أسابيع من عرقلة طلبَي الدولتين للانضمام إلى الحلف، حسبما جاء في تصريح للأمين العام للحلف يوم 28 يونيو/حزيران الماضي أثناء قمة الحلف السنوية. فقد اجتمع قادة الدول الثلاث (تركيا والسويد وفنلندا) في العاصمة الإسبانية "مدريد" لمناقشة تحفُّظات أنقرة على سياساتهما وكيفية حلِّها قبيل قمة الناتو السنوية بأسبوع، وناقش أعضاء الحلف المخاطر التي يواجهها الناتو، لا سيَّما الطريقة المُثلى للدفاع عن أعضائه في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا.

وقف "يِنس ستولتِنبِرغ"، الأمين العام لحلف الناتو، في مؤتمر صحافي على هامش القمة الأطلسية قائلا: "يسرُّني أن أعلن أننا توصَّلنا إلى اتفاق يُمهِّد الطريق لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، فلطالما أثبتنا في حلف الناتو أنه مهما كانت خلافاتنا، فإننا نستطيع أن نجلس معا ونجد الأرضية المشتركة ونحلّ القضايا العالقة بيننا". وفي الوقت نفسه، حضر الرئيس الأميركي "جو بايدن" في مدريد من أجل قمة الناتو، وجرى لقاء بينه وبين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، (وقد صرَّح بايدن على هامش لقائه بأردوغان قائلا: "أريد أن أشكرك بالأخص على ما فعلته من أجل وضع فنلندا والسويد، والجهد المُذهِل الذي تبذله من أجل تصدير الحبوب من أوكرانيا وروسيا، أنا أعنيها حين أقولها، إنك تقوم بعمل عظيم")*.

التحوُّل السريع

وقد تقدَّم البلدان السكندنافيَّان بطلب عضوية في مايو/أيار الماضي بعد عقود من الحياد (بين موسكو وواشنطن أثناء الحرب الباردة وبعدها)، وهو طلب يحتاج إلى موافقة أعضاء الحلف كافة، الذين رحَّب جميعهم بالأمر باستثناء تركيا، حيث اعترضت الأخيرة في البداية حتى توصَّلت إلى تفاهمات أتاحت لقادة الحلف أن يعلنوا رسميا دعوة السويد وفنلندا. وعلَّلت تركيا رفضها حينئذ قائلة إن السويد دعمت تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، (المُصنَّف تنظيما إرهابيا بالنسبة إليها وكذلك في عدد من العواصم الغربية). ولم يُفصح "ستولتِنبرغ" عمَّا إن كان البلدان سينضمان بالفعل إلى الناتو في نهاية المطاف أم لا، بيد أنه أشار إلى أنها "أسرع عملية انضمام للناتو في تاريخه"، بدءا من طلب التقديم وحتى إصدار الحلف الدعوة الرسمية، مضيفا أنه يثق بقدرة الدول الثلاث -تركيا والسويد وفنلندا- على الالتزام بالتعهُّدات التي قطعتها على نفسها في مذكرة التفاهم الموقَّعة بينها.

وقد قال الجنرال "كريستوفر كافولي"، القائد الأعلى للحلفاء بالناتو والقائد الأسبق للجيش الأميركي بأوروبا وإفريقيا، إن البلدين سيساهمان عسكريّا من يومهما الأول في الحلف، إذ إن جيش فنلندا مُدرَّب جيدا ومُسلَّح بالمُعدَّات الكافية، وهو خبير لا شك -على حد قول كافولي- في حماية حدوده البالغ طولها أكثر من 1300 كيلومتر مع روسيا. علاوة على ذلك، يستخدم الجيش الفنلندي بالفعل طائرات مُقاتلة أميركية، وقد أعلن في فبراير/شباط الماضي أنه سيشتري 64 طائرة من طراز "إف-35" الأحدث في الأسطول الأميركي، وهو ما يجعل أسلحة البلدين منسجمة عسكريا. أما السويد، ورغم أن جيشها أصغر حجما، فإنها تنفق بسخاء على مجهودها الدفاعي، وسترفع ميزانيتها العسكرية بأكثر من 300 مليون دولار هذا العام. وقد أضاف كافولي أن الجيش السويدي مهم على وجه الخصوص في ردع روسيا بحريا.

بيد أن حفاوة الاستقبال كادت أن تُنسي الجميع المفاوضات البطيئة جدا التي جرت بين السويد وفنلندا من جهة، والحليف الوحيد الذي عرقل عضويتهما -تركيا- من جهة أخرى، متناسين ربما أن فتح الباب الرسمي للعضوية، الذي تحقَّق قبيل القمة الأطلسية بساعات قليلة وسط جوِّ مشحون بالقلق، تحقَّق بالفعل بفضل حصول تركيا على معظم طلباتها، بما في ذلك تسليط الأضواء على دورها الفريد داخل الناتو.

تركيا تنتزع انتصارا سياسيّا

ماذا حدث إذن كي يسود السلام والانسجام بين أعضاء الحلف هذه الأيام؟ في مذكِّرتهم الثلاثية المُوقَّعة يوم 28 يونيو/حزيران الماضي، التي توسَّط "ستولتِنبرغ" و"بايدن" بين أطرافها كي تخرج إلى النور، وافقت كل من تركيا والسويد وفنلندا على "أن يُقدِّم حليفَا الناتو المُقبلَان دعمهما الكامل لتركيا في مواجهة المخاطر التي تُهدِّد أمنها القومي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لن يُقدِّم البلدان مساعدتهما لتنظيم "ي ب ك/ب ي د" الإرهابي وكذلك التنظيم المُسمَّى "تنظيم غولن الإرهابي (FETÖ)" الذي تتهمه تركيا بالضلوع في محاولة الانقلاب عام 2016)، ثم نصَّت المذكرة أيضا على أن "فنلندا والسويد يدينان التنظيمات الإرهابية كافة التي تُدبِّر هجمات ضد تركيا، ويعبِّران عن تضامنهما العميق مع تركيا وأسر الضحايا فيها".

لقد كان هذا نصرا لتركيا. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تعهَّد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم في السويد بتعميق تعاونه مع تنظيم "ب ي د" الذي يُعَد فرعا من أفرع "بي كي كي" الإرهابي. ولكن لماذا قرَّر الديمقراطيون الاجتماعيون في السويد تعميق تعاونهم مع هذا الشريك غير المألوف حينئذ؟ لأنهم ببساطة كانوا يحاولون تأمين أغلبية برلمانية لحكومة الأقلية التي تزعَّموها في ذلك الوقت، ومن أجل الوصول إلى هدفهم، كان عليهم أن يستميلوا النائبة "أمينة كاكاباوِه"، عضوة البرلمان السويدي والمقاتلة السابقة في صفوف البشمركة الكردية، التي طُردت سابقا من حزب اليسار وباتت عضوة مستقلة منذئذ. وقد استخدمت "كاكاباوِه" قوتها إلى أقصى حدٍّ ممكن آنذاك حين طالبت بدعم القضايا الكردية قبل أن تمنح صوتها للحزب الحاكم، وبدا -في الحقيقة- أنها في غاية الاستمتاع بالقوة السياسية التي حازتها فجأة.

"الجميع يركع الآن لأردوغان بسبب الأزمة مع بوتين"، هكذا علَّقت "كاكاباوِه" على التطورات الأخيرة في إحدى مقابلاتها العديدة مع الصحافة العالمية. بيد أن البرلمان السويدي الذي أنهى مُدَّته في يونيو/حزيران الماضي، سيعاود العمل بعد الانتخابات البرلمانية القادمة في سبتمبر/أيلول، ومن ثمَّ لم تعُد رئيسة الوزراء "ماجدَلينا أندرسون" مدينة الآن بأي شيء لـ"كاكاباوِه"، التي لا يسعها أن تُنتخَب من جديد، ومن ثمّ وقَّعت أندرسون المذكرة مع تركيا. أما فنلندا، فلم تكُن في الواقع هاجسا حقيقيا بالنسبة إلى تركيا.

رغم أن مربط الفرس في أي اتفاقية بين أكثر من بلد يكمُن في تطبيقها فعليّا من عدمه، فإن المذكرة السويدية الفنلندية التركية تُعَد -ولا شك- نصرا لأنقرة. فعلاوة على نبذهما تقديم الدعم لتنظيم "ي ب ك" الإرهابي، تعهَّدت السويد وفنلندا برفع حظر تصدير السلاح الذي فرضته كل منهما سابقا على تركيا (والسويد واحدة من أهم صُنَّاع السلاح في أوروبا)، كما تعهَّد البلدان "بالنظر السريع والدقيق في طلبات الترحيل والتسليم التي قدمتها تركيا بحق المُشتبه بضلوعهم في عمليات إرهابية، آخذين في الاعتبار المعلومات والأدلة والاستخبارات التي قدَّمتها تركيا". وشرح الرئيس أردوغان إلى الإعلام التركي بالفعل ما يعنيه ذلك، وهو أن السويد يجب أن تُسلِّم الآن إلى تركيا 73 مُشتبها به بتهمة الإرهاب. وقد صُدِم الكثيرون في صفوف الأقلية الكردية في السويد (وعددهم كبير نسبيا هُناك)، وهُم الذين وصلوا إلى السويد بوصفهم لاجئين طيلة عقود (بسبب صراع تركيا مع بي كي كي وكذلك المعارك الأخيرة في سوريا) من هذا التحوُّل.

على حد قول مسؤول رفيع في حلف الناتو في حوار مع "إليزابيث براو"، فإن "السويد وفنلندا تعلَّمتا درسهما الأول في الدفاع الجماعي"، وهو أن بعض أعضاء الجماعة يصعب التفاهم معهم، بل ولعلهم شديدو العناد، لكن مصلحة تعزيز الأمن للجميع تفرض عليهم العمل معا. من جهة أخرى، تسعى السويد وفنلندا بالطبع أن تُقلِّصا مدى تطبيقهما للمذكرة الموقَّعة مع تركيا، لكن الثابت الآن للجميع أن عرقلة أردوغان لعضويتهما في البداية لم يكُن -كما ظن كثيرون- من أجل طائرات "إف-16" فحسب، لقد كان جوهر الأمر هو ملف "الإرهاب الكُردي"، وهي مشكلة أمن قومي حقيقية جدا بالنسبة إلى أنقرة.

بينما وقف البلدان راغبَيْن في دخول الحلف الأطلسي، انتهز أردوغان الفرصة وطلب التنازلات التي أرادها منهما منذ وقت طويل. أما طائرات "إف-16″، فأرسلت واشنطن إشارات مفادها أنها مستعدة لبيع الطائرات المقاتلة إلى أنقرة، وكذلك مُعدَّات تحديث طائرات الطراز نفسه الموجودة بتركيا. وعلى الناحية الأخرى داخل ستوكهولم، فإن التحوُّل الأخير أتى بمثابة خبر تعيس للمجتمع الكردي، إلا أن السويد احتاجت إلى موازنة الأمور من أجل مصالحها الأمنية والقومية في مقابل مصالح مجتمع يعيش معظمه في منطقة الشرق الأوسط في نهاية المطاف. أظهر الناتو إذن وحدة صفوفه في قمة مدريد (كما أراد)، وهو أمر يتابعه بوتين عن كثب لا شك.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!